جمال ناجي *
إذا استثنينا الفترة الذهبية لزواجه من «نجود» التي استمرت بضع سنوات، تخللتها لحظات حسية ممتعة، ومناكفات بلغت حدود الحرد والمقاطعة، فإن الحياة بدت لعمّي «اسمعين»، مثل موسم للتصفية النهائية، فتخلص من الكثير من الملابس التي لا تلزمه بحكم امتلاء جسمه وتكرّشه قليلاً، ومن أحذيته وأحزمة بنطالاته التي لم تعد تلزمه، ومن حصانه العسلي الذي هرم وشاخ فاقتاده غرباً وأوقفه على بعد ثلاثمائة متر من النهر، ثم بسمل وكبّر وأطلق على رأسه رصاصة أراحته من حياة الكد في البيارة، فامتلأت السماء بنسور وصقور وجوارح أخرى لم يشهدها المكان من قبل.
تخلص أيضاً من حظيرة الحصان وزريبة الأبقار التي أعادتها «فخرية» إلى «نجود»، في سياق حرب السيدة الأولى، ومن ديكه الوحيد ذي العرف المدمَّى والريش اللامع، ومن دجاجاته العشرين اللواتي أُصبن وصيصانهن بالرعاش الوبائي ففقدن القدرة على الوقوف والسير باتّزان، فدفنهن كلهن في حفرة على بعد أمتار من السور الشائك للبيارة، ثم تخلص من أقنانهن ونثر ما تبقى من أعلافهن في الطريق الزراعية المؤدية إلى النهر، كما تخلص من الفواتير والإيصالات المتقادمة التي كان يحرص على حفظها في مجرّ خزانته، حتى إنه تخلص من ثوب ليلكي مطرز لزوجته «فخرية» من دون علمها، لأنه كان يتشاءم كلما رآها ترتديه.. وصار يتأمل الحياة بدلاً من أن يتعامل معها مثلما اعتاد، كما تقبل فكرة الموت وتصالح معها، وبدأ يعد نفسه لتلك اللحظة التي ينعدم فيها كل شيء: غيبوبة أو نومة بلا قوْمة، أو سكتة قلبية أو شردقة تؤدي إلى الاختناق. على الأغلب فإن الأمر لن يستغرق أكثر من ثوانٍ، وربما دقائق يمكن احتمالها في مقابل الراحة الأبدية التي ستعقبها.
هكذا فكّر غير مرة في وصلات انفراده بذاته، ومع أنه لم يكن واحداً ممن يعصون أوامر الله تعالى في سلوكهم، باستثناء عبثه بجسد «نجود» في البيارة قبل زواجه منها، إلا أن عقله أوصله إلى أن من الأفضل له أن يتوب إلى الله من جديد، ويثابر على عبادته، ما دام موعد الموت يقترب، ويكفّر عن ذنوبه التي يعرفها والتي لا يعرفها، إذ:»بما أنني ميت لا محالة، وبما أن الحياة على وشك الانتهاء، فلِمَ لا أعدّ نفسي لملاقاة ربي فأكسب الدنيا والآخرة؟».. هكذا فكر، ثم ابتاع مصاغاً لزوجته «فخرية» يعادل في قيمته مخمسيتها العصملية وأساورها الست التي وهبتها له حينما أسس البيارة، وطلب منها مسامحته على ما بدر عنه من تصرفات بحقها أثناء تحمسه وانقياده لزواجه الثاني، كما أهدى «نجود» إسوارتين ذهبيتين، ووزع الزكاة عن محصول بيارته.
لكنّ الملالَ عاد يستبد به من جديد، فصار يفكر في كيفية إتمام ما تبقى من عمره الذي لا يريد أن ينتهي؟ كما انتابته موجة من الترحم على الموتى الذين عرفهم في حياته، لكنه كان ترحماً محايداً بلا عواطف أو شجون، مجرد دعاء أمْلته خطب أئمة المساجد وبقايا الدروس الدينية التي تلقّاها في مدرسة قريته.
صار يترحم على أولئك الموتى، كأنما ثمة صوتاً في داخله يملي عليه عبارات طلب الرحمة لأرواح الكثيرين من أقاربه ومن عرفهم: والده «عبد الجبار» ووالدته «عائشة»، أخواه «مصطفى» و «حمدان»، أخواته كلهن، «وحيد الحنش» الزوج السابق لـ »نجود»، أجداده وجداته وأعمامه وأخواله، أصدقاؤه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة، وكل الموتى الذين سبق أن التقاهم في مناسبات عدة قبل أن يسمع بموتهم.
كان الأمر مزعجاً له؛ إذ كيف يمكنه وقف ذلك السيل من طلبات الرحمة والمغفرة بالاسم، لمن يداهمون ذاكرته من الموتى من معارفه، فهم كثيرون، كثيرون إلى حد شعر معه بأنه يعيش مع أولئك الأموات أكثر من الأحياء، غير أنه توصل إلى طريقة تريحه من ذكر الأسماء عند الترحم، وهي القول: «رحمة الله على كل أموات المسلمين». ولقد أراحته تلك الفكرة في البداية، ثم تذكر أن عدداً من الموتى الذين عرفهم وتعامل معهم في حياته مسيحيون، خصوصاً أولئك الذين كانوا يبيعونه الأسمدة والأنابيب لبيارته، وذاك الذي كان يقايضه الخرفان بالخنازير التي يصطادها، فقام بتعديل عبارة ترحّمِهِ لتصبح: «رحمة الله على كل أموات المسلمين والمسيحيين»، وبذا تمكن من تجنب ذكر الأسماء أو تكرارها، كما تجنب مآزق تذكر الوجوه من دون تذكّر أسماء أصحابها، ثم اكتشف أن الأمر لم يختلف كثيراً بتلك العبارة الجامعة، إذ إنه صار مضطراً إلى تكرارها كلما تذكر أحد معارفه الموتى، بفارق بسيط هو عدم ذكر الاسم، أكثر من ذلك، أن صورهم صارت تتدافع في مخيلته، كأنما عرفوا أنه صار مصدراً لنعمة الترحّم، ولقد أحس أن بعضهم صار يظهر في مخيلته فجأة ومن دون مناسبة، مع أنه اعتاد أن يتذكرهم بسبب خاطر أو عبارة قالها أحدهم في حياته، أو موقف يذكّره به، أو طرفة كان جزءاً منها، وهكذا وجد نفسه يكرر عبارة: «رحمة الله على كل أموات المسلمين والمسيحيين» قبل أن ينام، وعند صحوه، وخلال لحظات معينة من ساعات النهار والليل، وقد حرص على أن يقولها في قلبه من دون النطق بها أمام زوجته «فخرية» كي لا تظن به الظنون.
لكن ذلك التشاغل الروحي لم يُخرجه من السأم الذي أطال أيامه ولحظاته، واستمر إحساسه بثقل التكرار اليومي لوقائع حياته الرتيبة، ففي كل صباح يصحو من نومه، يغسل وجهه وينظف أسنانه في المرحاض، فيسمع صوت «فخرية» من وراء الباب وهي تُذكّره بأن ينخع ويتمخّط داخل المغسلة لا خارجها، وألاّ يرشرش الماء حولها أثناء غسله وجهه ويديه، كي لا تضطر إلى تنظيف الأرضية من بعده، وألاّ يخطئ في استخدام فرشاة أسنانها الزرقاء بدلاً من فرشاة أسنانه البنية، وحين يخرج يجدها جالسة في غرفة الضيوف أو تحت شجرة الكينا بانتظاره، وأمامها فنجانان من القهوة وكوبان من الماء.
ولا يدري ما الذي أصاب علاقته بـ «فخرية» منذ أن غادرهما أبناؤهما، فعلى الرغم من الوئام الذي حل بينهما، إلا أن أحاديثهما جفت وانحصرت في أمور عدَّها تافهة، كتكرار آخر الأخبار التي عرفاها عن ابنهما «شعبان» وزوجته وولديه ودراستهما، وابنهما الثاني «رزاق» الذي قهرها بكتمانه وغموضه، وبإعراضه عن الزواج، حتى إنها ذات يوم قالت لعمّي «اسمعين»:
– اسمع، هذا الغضيب «رزاق» كبر.
فردّ:
– طيّب؟
فأكملت :
– أنا أقول إنه لن يتزوج في حياته.
فسألها وهو يرقب ضفدعاً يزحف بالقرب من عتبة الباب:
– أبداً؟
فقالت بثقة:
– أبداً.
– وكيف عرفت؟
فردت بنبرة من توصَّل إلى جوهر المشكلة:
– هؤلاء الذين يسافرون كثيراً لا يتزوجون، اسمع مني.
ثم ضربت له مثلاً بابن خالتها الذي عمل سائقاً على طرق عمّان دمشق بيروت مدة عشرين سنة، ولم يتزوج بالرغم من بلوغه الخامسة والأربعين.
وحين سألها متتبعاً ما يجول في خاطرها: «ولماذا لم يتزوج ابن خالتك؟»، ردت شاشتها إلى الوراء وقالت بنبرة بطّالة:
– لأنه يعاشر العاطلات. أخته قالت لي إن له صاحبات في بيروت وفي الشام.
فتنهد وسألها:
– يا سلام؟ وكيف عرفتِ أنه يعاشر العاطلات ما دمتِ لم تري شيئاً بعينيك؟
فقالت:
– بالعقل.
ثم أردفت بقولها إن الناس لم يروا الله بالعين، لكنهم بالعقل عرفوه وآمنوا به.
فقرّب رأسه منها قائلاً:
– لا تقولي لي إن «رزاق» يعاشر العاطلات مثل ابن خالتك.
فقالت:
– ألله أعلم.
ثم تنهدت بغيظ:
– وإلا لماذا لا يتزوج مثل العالم والناس؟
كانا يتحدثان أيضاً، في جلساتهما الصباحية، عن ابنهما الثالث «جهاد» وزوجته «سهير» وابنهما «بادي» في رام الله، وما إذا كانوا سيظلون فيها أم إن الإسرائيليين سيؤذونهم أو يطردونهم منها.
ولقد تحولت أخبار أولئك الأبناء إلى مواضيع ثرية لأحلام «فخرية» التي عادة ما تتحول إلى تخوفات عند صحوها، خصوصاً حين ترى في منامها ابنها «جهاد» وهو يسبح بانتشاء في بركة ماء بعمق شبر، وهو حلم تكرر في منامها بأشكال مختلفة، أو حين ترى «رزاق» يلف رجْلاً على رجل ولا تبدو عليه ملامح المفاجأة على الرغم من حدوث زلزال تحته، أو غير ذلك من الأحلام التي ما إن تسردها على مسمع عمي «اسمعين» حتى يطالبها بتأجيل التفكير في تلك الأحلام إلى أن يعود ابنها «رزاق» من السفر ويفسرها لها بمعرفته؛ وإذ تتحسب من تحققها قبل عودته، يزفر مطالباً إياها بالكف عن تلك الأحلام التي تفسد الهناء.. وعند اللزوم، يقول لها: «بالناقص من النوم من أساسه»، ثم يتمنى ألاّ تكون لدى حوريات الجنة قدرة على الحلم، لأنهن سيسوّدن حياته هناك بأحاديثهن عما يشاهدن في أحلامهن.
لم تكن صباحاته سوى لحظات تتكرر الأحاديث فيها، فتتأفف «فخرية» لأنها لا تستطيع النوم في بعض الليالي بسبب شخيره العالي، فيرد بأن في وسعها النوم في غرفة أخرى، لكنها ترفض.
تحدّثه، كعادتها عن مشاريعها ومقترحاتها بشراء جهاز تلفزيون كبير بدلاً من ذاك الذي صار عتيقاً بخزانته الخشبية التي حالت ألوانها، أو عن احتياج أبواب الغرف إلى دهان جديد بعد أن تقشرت بسبب تقلبات الطقس، وكيف أن الجزّارين في سوق الشونة يبيعونها اللحوم على أنها بلدية ليتبين لها عند الطبخ أنها مستوردة، وبالطبع فلا بد لها من أن تحدثه عن نوع الطبخة التي ستطبخها له، وهنا يتوسع في شهواته للطعام، حتى إنه أحس في فترة من حياته بأنه تحول إلى حيوان أكول، يفكر أثناء تناوله طعامه بالوجبات القادمة، ويأكل ما يساوي وجبة بين كل وجبة ووجبة.
في كل صباح يتحدثان، ويهشان بأيدهما ذباب الغور الثقيل، الذي يتسلط على وجهيهما وأقدامهما في غرفة الضيوف أو تحت شجرة الكينا العملاقة، التي تحتاج إلى باعَي رجلين كي يحيطا بجذعها العريض المجرح، تلك الشجرة التي زرعها «حمدان» شهيد العائلة عند تأسيس البيارة، فكبرت وتطاولت حتى غدت معلماً بارزاً يستطيع الناظر من الشونة أو أي من قراها نحو النهر أن يراها من بعيد، وأن يشير بإصبعه إليها قائلاً: «هناك بيارة عمي اسمعين». وحينما تلحقهما شمس الضحى في أيام الصيف، بحرّها وصهدها، ينتقلان بكرسييهما إلى حيث الظل الذي يحميهما من حرارتها.
كان يشعر بوجود خطأ ما في الطبيعة نفسها، لأن الأشياء تتكرر على نحو مضجر: الأشجار هي الأشجار نفسها، حرارة الغور نفسها، سماؤه بالزرقة المغبرة نفسها، جباله بالتعرج نفسه، ذبابه بالشراسة نفسها، وحتى حينما يجتاحه الحنين ويذهب بصحبة «فخرية» لزيارة قبر أمه عائشة وشقيقه «حمدان» شهيد العائلة، فإنه يشعر بأن ذينك القبْرين فقدا الكثير من المعاني التي احتشدت فيهما عند دفن شقيقه وأمه قبل أعوام طويلة.
* أديب من الأردن
( الرأي الثقافي )