من نحن .. مخ الإنسان، نعمة أم نقمة؟


*محمد زكريا توفيق
ظل مخ الإنسان مجهول الوظيفة آلاف السنين. كان أرسطو يعتقد أن المخ جهاز لتبريد الجسد. وكان قدماء المصريين عند التحنيط، يبادرون بالتخلص من المخ عن طريق فتحة في الأنف. لكنهم يحتفظون بباقي الأحشاء في أوعية خاصة. كأن المخ شيء غير ضروري للحياة الأخرى.

كان الاعتقاد بأن القلب هو مركز الشعور والتفكير عند القدماء. نحن أيضا، لازلنا نستخدم عبارات مثل: “القلب الجرئ” كناية عن الشجاعة، و”الحفظ عن ظهر قلب” للدلالة على قوة الذاكرة.

نجد أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبدالحليم يغنون للقلب كرمز للحب. بالرغم من أن القلب ما هو إلا مضخة يتصل بها عدة خراطيم لتوزيع الدم على باقي خلايا الجسد.

ربما لأن قلب الحبيب ينبض بشدة عندما يرى الحبيبة. لذلك يقوم المحبون بحفر القلوب على جذوع الأشجار، ورسمه فوق فطائر الحلويات في أعياد الفلانتاين.

لكننا لم نسمع بأحد يغني للمخ حتى الآن. فهل هناك من يغنى ويقول: “يا مخي يا مجروح”، أو “خدي مخي واديني مخك؟”. لا أعتقد. بالرغم من ذلك، مخ الإنسان هو معجزة المعجزات، وأعجوبة العجايب في هذا الكون الرائع. سأقول لك لماذا.

مخ الإنسان يزن ثلاثة أرطال. يتكون من 100 بليون خلية من خلايا المخ، تسمى كل منها “نيرون”. لو كانت خلية المخ في حجم حبة الرمل، لملأ المخ عربة نقل كبيرة.

كل خلية تتصل بآلاف الخلايا الأخرى المجاورة عن طريق فروع تشبه فروع الشجرة. تكون شبكة رهيبة كهروكيميائية. تصل نقط الالتحام فيها إلى عدة ترليونات (الترليون = مليون المليون).

كل خلية من خلايا المخ، تعمل، كجهاز كمبيوتر مستقل، يعمل بالكيمياء والكهرباء. الكهرباء تتولد من فصل الأيونات الموجبة عن الأيونات السالبة، كما هو الحال في البطاريات السائلة (12 فولت) الموجودة في السيارات. إلا أن كهرباء المخ تتولد عن طريق فصل أيونات الصوديوم والكلورين الآتية من ملح الطعام (كلوريد الصوديوم)، الموجود في مياه المحيطات بكثرة.

ربما يكون هذا دليل آخر على صحة نظرية التطور التي تقول، إن أصل الإنسان سمكة كانت تعيش في الماء المالحة، ثم تطورت إلى فصيلة الزواحف، ثم الثدييات ومنها الإنسان. الدليل على ذلك أننا جميعا، لكل منا أنف واحد وفم واحد وعينان وأذنان وأربعة أطراف أو زعانف.

لو تجمعت الكهرباء الموجودة في مخ الإنسان في شحنة واحدة، فهي تكفي لصعق فيل ضخم. هذا ما يفعله سمك الثعبان الكهربائي، الذي يعيش في أنهار أميركا الجنوبية. هو يجمع الكهرباء الموجودة في مخه، ويفرغها دفعة واحدة للدفاع عن نفسه أو لقتل فريسته.

من حيث الحجم، يبلغ مخ الإنسان ثلث مخ الفيل. بالنسبة لحجم المخ النسبي، أى حجم المخ منسوبا إلى حجم الجسد. نجد أن مخ الإنسان يأتي بعد العنكبوت والعصفور والفأر المنزلي.

يتراوح حجم المخ في الإنسان من فرد إلى آخر. هناك من نصفه بأنه صغير المخ، كناية عن غبائه. لكن وجد أن أكبر حجم مخ في البشر كان لعبيط. إذن ما هو سر عظمة مخ الإنسان؟

عظمة مخ الإنسان لا تأتي من حجمه. لكن تأتي من الطريقة التي يتكون منها، وطريقة تشعب النيرونات مع بعضها. في الواقع يوجد للإنسان ثلاثة أمخاخ. لكل منهم وظيفته وتاريخه. هذا دليل آخر على صحة نظرية التطور.

المخ الأول، يشبه تماما مخ الزواحف (الثعبان والتمساح…الخ). المخ الثاني، يشبه مخ الثدييات (البقر والجاموس والحمير…الخ). أما المخ الثالث، فهو خاص بالإنسان فقط.

هذا يعني أن الإنسان لا يزال يحمل مخه الأول، الذي تكون عندما كان يزحف على بطنه، منذ 250 مليون سنة. ويحمل مخه الثاني الذي تكون عندما تطور إلى فصيلة الثدييات. بالإضافة إلى المخ الثالث الذي تكون منذ 50 ألف سنة فقط.

هذه الأمخاخ الثلاثة، داخل جمجمة كل منا، لا تزال تستخدم وتؤدي نفس الوظائف، كما كان الحال منذ آلاف أو ملايين السنين. عندما يزورك ضيف وتجلسه في الصالون، فالجالس أمامك، له مخ التمساح ومخ الحصان ومخ الإنسان في نفس الوقت.
المخ الأول يقوم بالوظائف الميكانيكية التي لا تحتاج إلى تدريب أو تعليم، والتي نشترك مع الزواحف في أدائها. مثل تنظيم نبضات القلب والتنفس والبلع والدفاع عن النفس والهرب عند الخطر.

المخ الثاني، مخ الحصان أو الثدييات، تكوّن فوق المخ الأول بطريقة تشبه إضافة غرفة جديدة إلى منزل قديم صغير. هذا المخ يعتبر أكثر تعقيدا من المخ الأول. ويقوم بوظائف مثل الشم واللمس. يسيطر على السلوك الخاص بالجنس. بالإضافة إلى وظيفة هامة يختص بها هذا المخ وحده، وهي العواطف.

القطط والكلاب والقرود، تلعب ويهتم كل منها بالآخر، وترعى أولادها وتشعر بالوحدة. بعكس الزواحف التي لا تعرف هذه الأشياء. هناك كلاب تحزن على فراق صاحبها إلى درجة أنها تمرض وتموت.

وجد عند بعض القرود، أنه عندما يموت أحدها، فإنها تتجمع حوله في شبه نصف دائرة، وتولي وجوهها نحو شمس المغيب في صمت وحزن. كأنها تمارس نوعا من الطقوس الدينية، الخاصة بتوديع الميت.

أما المخ الثالث، الخاص بالإنسان، فهو المخ الذي يضعنا في القمة بالنسبة لباقي المخلوقات. هو سلاحنا السري الذي جعل الإنسان يسيطر على الكرة الأرضية، بما فيها من أحياء أخرى، تقدر ببلايين البلايين. هذا المخ، قد تكون أيضا بطريقة تشبه إضافة غرفة ثالثة لهذا المنزل القديم.

عندما تحضر سيدة جلسة زار، أو يحضر رجل حلقة ذكر، فإنك ترى العقل البشري وهو يعمل في أوجه، مستخدما الأمخاخ الثلاثة. مخ الزواحف ومخ الثدييات ومخ الإنسان. مخ الإنسان يرسل المعلومات عن طريق نبضات كهربائية إلى مخ الزواحف في جزء من الثانية.

يقوم هذا المخ بإرسال إشارات كهربائية أخرى إلى مئات معينة من العضلات دون غيرها، بدقة متناهية في توقيت رائع. ثم يضيف إليها لمسات من الحب والخشوع. فيقوم مخ الثدييات بإذابة الحركة مع الحب والحنين والشوق والرجاء، في لحظات وتوافق لا تدانيها روعة أو جمال. هذا ما يعرف عند المتصوفين بحالات التجلي والوجد.

هي حالات تصل بالوعي إلى مرتبة عليا، غير معروفة لمعظم الناس. هذه المرتبة من الوعي، يمكن الوصول إليها بطرق أخرى. منها الموسيقى والفنون والآداب الراقية والشعر الجيد. تأتي من عمل الثلاثة أمخاخ أو العقول التي نحملها مع بعضها في توافق وانسجام تامين.

مخ الإنسان في مجمله، ينقسم إلى فصين أو نصفين. نصف يمين ونصف يسار. لكل منهما وظيفته المختلفة. لقد وجد العلماء أنه لو تلف نصف مخ الإنسان الموجود في اليسار، في حادث مثلا، فإن صاحبه يستطيع قيادة السيارات ولعب التنس.

لكن يجد صعوبة بالغة في الكلام. بينما لو تلف النصف الموجود في اليمين. فإن صاحبه يستطيع الكلام بسهولة، لكن لا يستطيع قيادة السيارات، أو لعب التنس.

نصف المخ الموجود في يسار الجمجمة، يقوم بالتفكير المنطقي والاستنتاج التحليلي واللغات. إننا نعتمد عليه عندما نتكلم ونفكر ونحلل ونناقش. أما النصف الموجود في يمين الجمجمة، فهو المسئول عن تخيل المساحات والحجوم. نعتمد عليه في رسم اللوحات الفنية وعمل التماثيل. في تقدير المسافات والزمن، وتقدير سرعة الأشياء وتصور الفراغ بين الأشكال.

لكن كيف يسيطر المخ على الجسد، وما هي رسائله، وما هي العلاقة بين العقل والجسد؟

كتب أحد الصحفيين الأميركان يدعى ستيوارت ألسوب عن تجربته الحزينة مع مرض عضال أودى بحياته بعد ثلاث سنوات من اكتشافه. كتب يقول: “استيقظت فجأة في منتصف الليل، أضأت المصباح وجلست في سريري. سمعت سائق القطار يقول: إننا سنقف في محطة بالتيمور القادمة.”

قمت من نومي فوجدت أمامي دولابا صغيرا به ملابسي ودورة مياه صغيرة. فسرت في ردهة ضيقة تؤدي إلى صالة أكبر منها. ثم توقف الهز والرج بوقوف القطار في بالتيمور.

عندما نظرت من النافذة، وجدت الرصيف عريضا، لكنه خالي من المسافرين. كنت متأكدا أن بالتيمور، ليست هي محطتي. قلت في نفسي بحزم: “لا لن أنزل هنا. ثم عدت إلى سريري بصعوبة بالغة، أطفأت النور وخلدت إلى النوم.”

لم يكن الصحفي في عربة نوم في قطار. لكنه كان في غرفة بأحد المستشفيات، بعد إجراء ثلاث عمليات جراحية له، لإزالة جلطات دموية في رئته بسبب مرض اللوكيميا.
كانت حالته تزداد سوءا يوما بعد يوم. في صباح اليوم الذي قرر فيه عدم النزول في محطة بالتيمور، بينت الأشعة السينية أن حالة رئته أفضل من ذي قبل. بعد عدة أيام، اقتربت حالة رئته من الحالة الطبيعية، غادر المستشفى وعاد إلى عمله المعتاد، لكي يكتب لنا ما يلي:

“ماذا حدث؟ يقول الأطباء بصراحة لا ندري. لكن لدي تفسير آخر، هو الأكثر احتمالا. قراري بعدم النزول في بالتيمور، ربما يكون هو السبب. لقد كان قرارا برفضي أن أموت. هذه العلاقة الغريبة بين العقل والجسد، لا يستطيع أن يفسرها أعظم الأطباء أوالعلماء أوالفلاسفة”.

لكن للأسف، عاود المرض ستيوارت ألسوب بعد فترة. ومات بعد ثلاث سنوات من بداية اكتشاف الأطباء مرضه.

القصة الأكثر غرابة هي قصة نورمان كوسينز المحرر بجريدة “ستر داي ريفيو”. فأثناء عودته بالطائرة من روسيا إلى الولايات المتحدة، بعد رحلة عمل وإجهاد شديدين، شعر بثقل في رجليه وظهره.

عند وصول الطائرة، كانت درجة حرارته 104 فهرنهيت. بعد أن مكث يومين في السرير، أرسله الأطباء إلى المستشفى. الثقل في رجليه وظهره تحول إلى شلل. أقل حركة تشكل آلاما مبرحة. ثم فقد قدرته على الحركة تماما، كانت العقاقير التي يتناولها، لمجرد تخفيف الآلام، ومساعدته على النوم.

بعد أسبوعين من وصوله للمستشفى، إزدادت حالته سوءا. لم يكن يستطيع تحريك رقبته. كان يقوم بتحريك فكيه بصعوبة. كتب يقول:

“كنت مرعوبا. الأطباء كانت تطلب مني كتابة وصيتي”. أحد الأطباء ترك رسالة إلى طبيب زميله في الغرفة تقول: “أخشى أننا في سبيلنا إلى فقدان نورمان”.

بدأ نورمان يراجع حياته، وما حدث له خلال الستة شهور السابقة لمرضه المفاجئ هذا. وجدها مليئة بالتعب والإجهاد والقلق. إذا كان الإجهاد والتعب، يجعلان الجسم يفرز سموما تمرض الناس وتقتلهم. لا بد أن يكون العلاج هو عكس ذلك. لذلك قرر نورمان أن يتولى أمر علاجه بنفسه.

ترك نورمان المستشفى وذهب للإقامة في فندق. ألقى كل الأدوية والمسكنات في سلة المهملات. كان يقول: “الآلام مبرحة، لكنني لا أحتاج إلى مسكنات، بل إلى الضحك والفكاهة”. طلب آلة عرض سينمائية صغيرة وأفلام فكاهية، مثل أفلام “الإخوة ماركس” و”لوريل وهاردي” و”الكاميرا الخفية”.

كان يقول: “كل 10 دقائق ضحك، كانت تجعلني أنام ساعة بدون ألم. كنت في نفس الوقت، ابتلع كميات كبيرة من فيتامين “C”. باستمرار العلاج بالضحك، بدأت حالتي تتحسن يوما بعد يوم”.

شفي نورمان كوسينز من مرضه تماما في خلال عدة شهور. لا يدري الأطباء كيف استطاع هذا الرجل علاج نفسه من مرضه اللعين، باستخدام الفيتامينات والضحك وقوة العقل فقط.

عندما تكتشف شركات إنتاج الأدوية عقارا جديدا، وتريد تجربة فاعليته في علاج مرض معين، تختار ثلاث عينات عشوائية من المرضى. تعطي المجموعة الأولى الدواء الجديد. تعطي المجموعة الثانية دواء مزيفا (فشنك) يسمى “بلاسيبو”، هو عبارة عن ماء وسكر.

المجموعة الثالثة، لا تأخذ دواء على الإطلاق. ثم تقارن نتائج المجموعات الثلاث. الغريب في الأمر، هو أن الدواء المزيف هذا، وجد أن له تأثيرا فعالا في علاج المرض، مثل الدواء الجديد، لكن بنسب متفاوته. هذا ما يعرف بالعلاج بالإيحاء.

أثبتت التجارب أن “البلاسيبو”، أى الدواء المزيف “الفشنك”، تصل كفاءته في تسكين الألم 54% من كفاءة الأسبرين، و56% من كفاءة المورفين. وقد وجد علماء النفس أن قرصين من “البلاسيبو” الفشنك، أفضل من قرص واحد. وأن “البلاسيبو” له مفعول أفضل إذا وصف عن طريق الطبيب. لأن المفروض أن الطبيب يصف عقاقير حقيقية.

عندما يقف البائع في السوق يبيع شربة الحاج محمود، التي تقتل الدود، أو الوصفة التي تذهب بألم الأسنان بعد أكل الحلاوة الطحينية، هو يبيع لهم الوهم، العلاج بالإيحاء، الذي ينتج عنه نتائج إيجابية في كثير من الأحيان.

وجد أيضا، أن بعض الناس تتماثل للشفاء، بمجرد أخذ ميعاد لرؤية الطبيب، أو عند سماع صوته على التليفون وهو يقول كلمات طيبة، أو قبل أن تتعاطى الدواء. لذلك ثقة المريض في الدكتور المعالج هامة جدا، وتمثل جزءا كبيرا من العلاج.
هذا يفسر لنا نجاح العلاج بالوصفات البلدية والرقية والأدعية والأحجبة والشبة والفسوخة في حالات كثيرة. هذا ما يجعل الدجالين يستمرون في العلاج بالدجل حتى الآن، لأن علاجهم يأتي في بعض الأحيان بالنجاح.

السبب يرجع إلى الإيحاء لا غير. لقد اعترف لى طبيب متخصص في علاج الحساسية هنا في نيويورك، بأنه كان يعالج في بعض الأحيان مرضاه بحقن ماء مقطر بعد إيهامهم أنه دواء جديد. وكان يحصل على نتائج طيبة.

لى صديق حميم أعرفه منذ أيام الصبا والدراسة الجامعية. كان والده رئيس جماعة صوفية لها مريدون وأتباع ولها مولد يقام كل عام. في يوم من الأيام عندما كنت في زيارة لصديقي هذا، جاء والده الشيخ لتحيتي والحديث معي. وأثناء الحديث، أخبرني بحدوث شيء غريب له.

كان الشيخ يعاني من التهاب الزائدة الدودية. لكنه كان يخشى إجراء عملية جراحية لإزالتها. في إحدى الليالي، رأى في المنام رجلين طويلين، ربما كانا ملكين، يلبسان الملابس البيضاء. اقتربا منه وهو نائم، وقاما بعمل العملية الجراحية له لإزالة الزائدة الدودية.

عندما استيقظ من النوم، وجد آثار العملية الجراحية بادية في جسمه. ووجد أيضا بعض بقع دماء على ملابسه. مما يبين أن العملية الجراحية كانت حقيقة، تمت بالفعل في الليلة السابقة، ولم تكن مجرد رؤية. بعدها، اختفت آلام الشيخ منذ ذلك الحين.

في إحدى تجارب علم النفس، تم تنويم شخص بالغ تنويما مغناطيسيا. ثم خاطبه الموجه مباشرة قائلا إنه سوف يقوم بتقريب سيجارة مشتعله إلى ذراعه حتى تلامسه. لكنه بدلا من السيجارة المشتعلة، قام بتقريب قلم رصاص حتى لامست نهايته ذراع المنوم مغناطيسيا.

على غير المتوقع، أخذ ذراع المنوم في تغيير لونه مكان التلامس، وبدأت تظهر على الجلد بقاليل وآثار حروق. هذه تجربة معروفة وموثقة في مراجع علم النفس. توضح ما يمكن أن يفعله “الإيحاء” بأجسامنا.

لا زلنا نجهل الكثير عن هذا العقل الجبار الذي نملكه. ستيفن جولد أحد علماء الدارونية الجديدة (الدارونية الجديدة تستخدم علم الجينات في دراستها لنظرية التطور)، كتب يقول: إن قوة عقل الإنسان أكثر من اللازم. هذا سر شقائه.

عقل الإنسان الزائد في التخصص، كما يقول جولد، يقف عثرة في سبيل تقدم الإنسان وتطوره. وربما قد يتسبب هذا العقل في فناء الجنس البشري من على سطح الأرض، إذا قامت حرب عالمية نووية، أو حرب كيميائية أو ميكروبية، وهذا شيء وارد.

عقل الإنسان موتور طيارة في جسم سيارة فولكس فاجن. هذا هو السبب في القلق والشعور بالضياع والحروب والقسوة والظلم الذي نراه حولنا في كل مكان.

العقل الذي وضع إنسانا على سطح القمر وأعاده سالما، هو نفسه الذي يجعلنا نسهر الليالي نبكي من ألم الفراق. هو العقل الذي يجعلنا نتساءل، لماذا لم تعد تحبني؟ لماذا أنا حزين، بالرغم من أنني أتمتع بكل شيء، في صحة جيدة ومشهور؟ لماذا أنا يائس، بالرغم من عدم وجود ما يدعو لليأس؟

بدون العقل، لن يخشى أحد الموت. معظم الحيوانات لا تخاف الموت، ولا تفكر فيه. عندما يأتي يأتي. هروبها من الخطر بحكم الغريزة لا الخوف من الموت. هذا الإدراك، وهذه اليقظة والوعي بالذات، هي التي تجعل الإنسان يلجأ إلى الخمور والمخدرات، لعلاج الاكتئاب واليأس، هربا من الواقع، أو يقدم على الانتحار هربا من الحياة نفسها.

إذا كنت بدينا فلا تلومن إلا العقل. معظم الحيوانات تتوقف عن الأكل حينما تشعر بالشبع. لكن الإنسان يأكل أكثر من حاجته. يخزن الطعام في جسده خوفا من المستقبل. خوفا من المجاعة التي لن تأتي. خوفا من الغد.

ما الذي يجل الإنسان يفرط في الأكل والجنس وتعاطي الخمور أو المخدرات؟ ما الذي يجعله يعرض نفسه للخطر، فيقوم بتسلق الجبال، أو بممارسة رياضة سباق السيارات؟ السبب هو القلق والاكتئاب اللذين يصيبا الإنسان. كلها محاولات يائسة لتقريب الهوة بين رغباتنا الملحة وواقعنا المر.
الخمور والمخدرات تقتل في الولايات المتحدة مائة ألف شخص. تسبب خسائر للاقتصاد القومي وللصحة العامة تقدر بمائة بليون دولار كل عام. بالرغم من ضررها المعروف لكل إنسان، إلا أن لها سحرها الخاص، الذي يجذب الملايين من الناس. إنها تقدم إلى الناس ما يحتاجون إليه. تغير التركيب الكيمائي للمخ بطريقة تجعل الفرد منا يعيش الواقع بطريقة مختلفة وأقل ألما.

الخمور تؤدي إلى بطئ انتقال المعلومات داخل المخ. أول شيء يفقده العقل في هذه الحالة، هو القدرة على التفكير المنطقي، أو الحكم على الأشياء، أو تقدير الزمن والمسافات، أو التفرقة بين الخطأ والصواب.

ثم بعد ذلك، تبدأ الذاكرة في الاختفاء. أي أننا ننسى أنفسنا، ونفقد الوعي الذي يجعلنا آدميين. فنتحول إلى حصان أو حمار. نهرب من المسئولية، ونعيش بعقل الثدييات أو الزواحف، بما فيه من انفعالات وقتال وجنس وجرائم.

المخدرات، ومنها الكوكايين والهروين والأفيون والحشيش، هي الأخرى تقلل من إدراكنا للواقع. تأثير هذه المخدرات، يشبه تأثير الخمور على المخ. هي أيضا تغير تركيبه الكيميائي. تبطئ انتقال المعلومات، وتشل الذاكرة. لهذا نستمر في تعاطيها وإدمانها. نغفل أنها تدمر خلايا المخ وتشوه الجينات الموجودة داخل خلايا الجسد.

التعرض للخطر وارتكاب الجرائم، أيضا يغير من كيمياء المخ. يأتي بنتائج مشابهة لتأثير الخمور والمخدرات. كلها أمور تمحو القلق واليأس والإكتئاب مؤقتا.

لذلك، ارتكاب الجرائم يسبب إدمان. تسلق الجبال يسبب أيضا إدمان. العمليات الجهادية ليست بسبب الإيمان، لكنها نوع من الخمور والمخدرات، تغير من تركيبة المخ الكيميائية، وتسبب إدمان.

كذلك الإفراط في العمل، في الأكل، في لعب الشطرنج، وفي الجنس. كلها أمور تهدف إلى الهروب من واقعنا الذي لم نعد نطيقه. كلها محاولات لتعطيل العقل الذي يفصلنا عن عالم الحيوانات والبهائم.

إن الإنسان، رغم جبروت عقله، يرفض واقعه. يتساوى في ذلك الغني والفقير، الشاب والكهل، المعافى والمريض، المشهور والمغمور. الكل يريد الهرب من الواقع ولكن إلى أين؟

ما نعنيه بالعقاقير، يبدأ من الأسبرين وينتهي بالهروين وما بينهما. نحن مجتمعات مدمنة لتناول العقاقير. المجتمع الأميركى يتناول 20 ألف طن أسبرين في اليوم. النيكوتين في التبغ، هو الآخر عقار. يؤثر في المركز العصبي للمخ ويسبب إدمان.

السيجارة الواحدة تحتوي على 4000 مادة كيميائية، منها 400 مادة سامة ضارة بالجسم. التدخين يسبب أمراض القلب، وسرطان الرئة، وأنواعا كثيرة مختلفة من السرطان، وأمراضا أخرى عديدة.

المجتمع الأميركى، كان يدخن في السبعينيات 600 بليون سيجارة في السنة. هذه النسبة تقل الآن بسبب الحملة التي قامت بها الحكومة ومنظماتها والهيئات الصحية لمكافحة التدخين.
أما الكحليات، فيتعاطاها 70 مليون من الأميركان. ينفقون 10 بليون دولار على الخمور في السنة. منهم 5 ملايين مدمن. القهوة والشاي والكاكاو والشيكولاتة والكولا (الكوكاكولا والبيبسي وغيرها)، تنتمي لعقار يسمى زانتينز. تناولها بكميات قليلة يعمل كمسكن، ويساعد على النشاط المؤقت.

لكن تناولها بكثرة، يسبب إدمان، يؤدي إلى القلق والاكتئاب وفقد الشهية. ويؤثر في انتظام ضربات القلب، ويسبب الأرق. هي أيضا، تزيد من إدرار البول، وتسبب مشاكل للمعدة مثل الأسبرين. كما أنها، كما تقول الأبحاث الطبية، قد تغير من تركيبة الكروموزوم في الخلية، وتشكل خطرا بالغا للحوامل وأجنتهن أثناء تكوينها.

لماذا أكتب عن هذه المواضيع الجادة؟ لأنني لا أجد خطرا يهدد مجتمعنا أكثر من خطر استخدام العقل استخداما سيئا مدمرا للفرد والوطن. فالتعليم الحكومي منحط، ليس له هدف (خلطابيطا)، وهو أمر لا تتناطح فيه عنزتان.

التعليم يتجه نحو كارثة شبه أكيدة. الثقافة العامة متدنية. أجهزة الإعلام كارثية. الحياة المعيشية والفكرية بائسة. الأمية عالية النسبة. العقول مكبلة بفتاوي الماضي وتراثه. فارغة لا تعبأ إلا بالغث والضحل. بذلك أصبحت عقولنا عبئا يراد التخلص منه.

شبابنا ضائع لا هادي له، وسط هذه البحار المظلمة والأمواج المتلاطمة. تفتك به المخدرات والضياع والمبيلات والإنفجار السكاني. يعادي الثقافة والعلم والفكر، ويدمن التشيع لكرة القدم، للبحث عن نصر وهمي. أو يلجأ إلى التطرف والهوس الديني، طالبا مجد غيبي. أو إلى تعاطي المخدرات، للهرب من الواقع المؤلم.

باقي المجتمع، نصفه النسائي مشلول مغلوب على أمره. والنصف الآخر مشغول بلقمة العيش وطوابيره. إن بات آمنا غير جائع، فهذا كرم وفضل من الله. وإن أضحى غير ذلك، فالصبر العقيم والأمل الخادع. هكذا تسير بنا المقادير إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
_______
ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *