*لطفية الدليمي
قد يبدو عنوان النص صادماً في مباشرته ، فهو يحيلنا إلى الكتابات السهلة من نمط ” كيف تتعلم الإنكليزية في سبعة أيام ؟” و لكن القراءة الدقيقة ستكشف لنا كم نحن ميّالون إلى إضفاء صرامة كذوب و جدّية متكلّفة على الموضوعات الحيوية في حياتنا ،وهذه الجدية المتكلفة هي بعض ما يسم نتاجنا العقلي والفكري و هي السبب في عجزنا عن مقاربة الأفكار الجديدة بسلاسة وحيوية وافتقارنا إلى الشغف الذي أعده الأساس في جميع الإنجازات العظيمة المبهجة التي حققها الإنسان بوصفه كائناً مفكّراً.
كتب هذا النص البروفيسور ( أيان رافينسكروفت ) الذي يعمل أستاذاً للفلسفة في جامعة فلاندرز الأسترالية و نشره في مجلة ( Philosophy Now ) عام 2010 و هو استعراض جذّاب و في غاية السلاسة لتسعٍ من الإضاءات يراد بها تحفيز القدرة و الرغبة في مقاربة الفلسفة و اعتمادها اشتغالاً يومياً ، يعني الجميع مهما تعدّدت اهتماماتهم وتوجّهاتهم المهنية و العقلية بعيداً عن أيّة فذلكات لفظيّة أو فقهية من تلك التي أثقلت تأريخنا و عقولنا و جعلتنا ننوء تحت عبء ثقيل على مدى قرون طويلة ، و ما زالت مفاعيل هذا العبء و مؤثراته القاتلة حاضرة في جميع مفاصل حياتنا حتى اليوم.
من الجميل أن نتخلص من الكتابات الإنشائية المفرطة في بلاغتها الميتة وبخاصة في ما يكتبه الأدباء وبعض الكتاب الصحفيين والنقاد من مقالات فكرية ونقدية تستعين بالمصادر الفلسفية قديمها وحديثها مثلما تستعين بالموروث الفقهي والتراث الشعري وتستعير لغة مصطنعة صارمة ، ليتنا نغادر هذه المنطقة المتحجرة و ننتشل اللغة من خمودها لتأتي الأفكار عبرها حيوية محلّقة لا تثقلها الإشارات والاستشهادات المفرطة لعلنا نروّج لنمط من الكتابات الفكرية الرصينة والسلسة والجميلة -في الوقت ذاته – لنضع لبنة ترسي تقاليد ثقافية مغايرة ومعاصرة كهذه المقالة التي تنتمي إلى تاريخ الأفكار وتتضمن حديثا في حب الفلسفة يتحول إلى حديث فاتن عن القهوة والنبيذ والطعام والملابس والأفكار والمذاقات ، نريد مقالات بلغة محلّقة شفّافة ورؤى حيوية متضافرة مع شهوة الحياة والجمال دون أن تتخلى عن مسارها الفلسفي الرصين.
ماذا تلبس ؟: قلّما انتبه الفلاسفة لما يرتدون بالرغم من أنّ ملابسنا يمكن ان تكون مصدراً لبهجة جمالية عميقة ، و هناك القليل من الفلاسفة ممّن لا يضعون البهجة على رأس قائمة اهتماماتهم و يؤثرون عليها قيماً تبدو أشدّ صرامةً – مثل العدالة – مع أنهم لا يرون غضاضة في البهجة كقيمة بذاتها . هناك أنماط من الأزياء تبدو غير متناغمة مع المزاج الفلسفي المتدفّق ، فالفلسفة- كما نعلم -هي في الأساس فعالية مناهضة للفكر الشمولي ، أو لنقل بشكل أكثر دقة وتوصيفاً : إنّ الفلسفة تعلي شأن أولئك الذين نعتبرهم شخصيات مؤثرة و ذات سطوة مهيمنة في ميادين العقل و الحجج المنطقية و الأدلة غير المنقادة إلى انحيازات مسبّقة على الضد تماماً من الأيقونات التي تصنّعها الحشود أو الدين أو النظم الحاكمة من الذين لا يقبلون بغير الخضوع و الإذعان الكاملين ،و هو الأمر الذي يتنافى حتماً مع أي مسعى فلسفي خلّاق و منتج .
إنّ من الصادم للغاية أن نشهد حشد الفلاسفة – من سقراط و حتى راسل – ممّن عانوا مشكلات جدية و تعرّضوا للأذى العظيم على يد أساطين العالم المكرسين من قبل الحشود الجامحة ، و لكن : ما علاقة السلطة الطغيانية والأساطين التي تصنعها الحشود مع طرز الملابس التي نرتديها بالفلسفة التي نريد التعامل الرائق معها ؟
تكمن العلاقة في أن واحدةً من أهم ميزات الشخصيات الطغيانية و الحكومات المستبدة و الشمولية هو ولعها الطاغي بالأزياء الموحّدة التي ترمي لتمرير رسالة رمزية محدّدة ابتداءً من القميص البني للفاشستيين الإيطاليين إلى الرداء الكهنوتي الأرجواني لرؤساء الكهنة ،و يبدو أن هؤلاء الممسوسين بالممارسات الطغيانية قد عقدوا صداقة وثيقة مع خيّاطي ملابسهم و صانعي قبّعاتهم .و ثمة الكثير من القصص التي تروى في هذا الجانب ، و من جانب آخر فإن القميص الصوفي ( الجيرسيه ) للاعب كرة القدم يبدو مصمّماً ليخدم أغراضاً عملية و تجارية معدّة بعناية . دعونا نختصر القول : إذا كنت تجد نفسك منقاداً بقوة طاغية لارتداء زي محدّد ، أو كنت ترغب – في الحالات الأكثر سوءاً – في فرض ارتداء زي محدد على الآخرين فاعلم أنّ عليك أن تعالج جدبك الفلسفي و أن تراجعه مراجعة شاملة.
• ماذا تأكل : يأكل الفلاسفة في العادة كل أنواع الطعام مثلما يفعل الآخرون تماماً ، و لكن ثمة ميل ملحوظ تجاه النزعة النباتية vegetarianism و بخاصة في التراث الفلسفي للبلدان الناطقة بالإنكليزية و ربما كان هذا الميل بسبب تأثير بيتر سنكر Peter Singer الذي أقنع الكثير من الفلاسفة أنّ استهلاك اللحوم يعدّ مثلبة أخلاقياتية عظمى ،و مع أنه لا ينكر أن اللحوم مصدر مهم للبروتين و البهجة معاً لكنّه يرى استهلاك اللحوم غير متفق مع حجم الألم الذي تعانيه الحيوانات ،و اعتبر متعتنا في استهلاك اللحوم أمراً غير مقبول أو مبرّر بأية صيغة كانت .
• ما ذا تشرب : اشرب ما تشاء ، و لكن لنكن صريحين و نعترف بأنّ لدى الفلاسفة ميلاً قوياً إلى النبيذ الأحمر و القهوة . ثمة عبارة لاتينية مأثورة تُنسب في العادة إلى الكاتب الروماني ( بليني الأكبر ) تعني في مضمونها أن :” في النبيذ تكمن الحقيقة ” و كان يعني أن أقداحاً من النبيذ كفيلة بأن تجعل المرء يفصح عن طبيعته الحقيقية . حوّر الفيلسوف الأسترالي جون بيكلوف John Bigelow عبارة بليني و جعلها تعني ” في القهوة تكمن الحقيقة ” . أنا في الحقيقة أشعر بأن بضعة أكواب من القهوة الجيدة كفيلة بجعل ” سوائلي المعرفية ” تنساب بغزارة و تلقائية .
• ماذا تقرأ : لكي تصنع من نفسك فيلسوفاً جيّداً ينبغي أن تقرأ الكثير من الفلسفة . قدّر ( أنديرز إريكسون ) أن المرء يحتاج إلى قرابة العشرة آلاف ساعة من التدريب المتقن لكي يكون متضلّعاً أصيلاً في أي حقل معرفي ، و في الفلسفة يعني التدريب – في الجزء الأكبر منه – التواصل مع العقول الفلسفية العظيمة ، و من الواضح أن هذا التواصل لن يتحقق إلّا عبر وسيلة واحدة : القراءة المتواصلة و المثابرة لأعمال هؤلاء الفلاسفة . يحصل أحياناً أن يكون ما تبحث عنه مدفوناً في قعر كتاب يبدو لك مملّاً و سيجعلك تخسر الكثير من الوقت الثمين ،و هنا قد تبدو المسألة مثل الاضطرار لشراء شطيرة همبرغر ضخمة و الشبع بعد الاكتفاء بقضم قطعة صغيرة منها ، لذا اقرأ تلك الأعمال التي تأسرك فحسب و متى ما شعرت بأن كتاباً فلسفياً بات مملّاً أو ثقيلاً دعه جانباً و ابحث عن سواه .
• ما الذي تفكّر فيه : عندما كنت طالباً في الدراسات الجامعية الأولية للفلسفة أخبروني دائما أن الفلسفة مبحث يعنى بصورة أساسية بالحقيقة و الخير والجمال ، و كم أجد اليوم هذا التوصيف لدور الفلسفة غير مفيد و مقيّداً وواهماً إلى حد بعيد، فليس ثمة إلا القليل من الفعاليات الذهنية من التي لا يمكن للفلاسفة أن يدسّوا أنوفهم فيها بطريقة مثمرة و نافعة للغاية ، و كل العلوم الطبيعية و الإنسانية و الاجتماعية توفّر تربة خصبة لنمو الفكر الفلسفي بالضبط كما تفعل الفنون و الآداب و التاريخ و السياسة و الشؤون اليومية العامة . هناك البعض من الفلاسفة ممّن لا يرغبون في التداخل مع معطيات البحث العلمي الذي يمتّ بصلة ما إلى ميدان أبحاثهم الفلسفية الخاصة فتكون النتيجة الحتمية الانعزال في حدود اختصاص ضيق مصحوب بضيق في النظرة و التفكير يقتربان من حدود الهزل و ربما يقودان إلى نتائج مأساوية أحياناً ، و في الضفة الأخرى يوجد نوع من الفلاسفة ممّن يعلون من قوة العلم بصورة طغيانية قد تكون ماحقة للروح الفلسفية المتوهجة و هم في هذا لا يختلفون عن نظرائهم من الفلاسفة ضيّقي الأفق .
• كيف تفكّر في ما تفكّر فيه : يمكنك مع الفلسفة أن تفكّر كيفما تشاء طالما كان بإمكانك أن تقيم الدليل على ما تفكّر فيه و أن يمتلك هذا الدليل قدراً مناسباً من المقبولية ، و على العكس من الصورة المتداولة عن الفلاسفة، فهم لا يجلسون و يفكرون بطريقة عشوائية و يطلقون أفكارهم الجامحة لتتراقص في الهواء كما تفعل الجنيات ، و قد تعلّمت أن واحداً من أشقّ الأمور على النفس هو أن تجد دليلاً كافياً و مقبولاً لطروحاتك الفلسفية . إنّ واحداً من أكثر التدريبات الفلسفية صعوبة هو في كيفية حيازة المهارة اللازمة في صياغة المقدّمات الفلسفية و البناء عليها منطقياً للوصول إلى الحجة التي نبتغيها وربما كان التعوّد على قراءة الطروحات الفلسفية لكبار الفلاسفة هو التدريب الأفضل لحيازة هذه المهارة .
• تكلّم في ما تفكّر فيه : ما انفكّ الموسيقي البريطاني الرائع ( جندر سينغ ) من الفريق الموسيقي ( Cornershop ) ينصحنا بأن نحرص دوماً على تبادل الأنخاب مع أصدقائنا و مع خصومنا معاً ،لأن هذا هو ما يُبقي قلوبنا عامرة بالحيوية و البهجة و إن الحديث عن الفلسفة مع الأصدقاء و الخصوم الفكريين يُبقي المرء شاباً و قد قضى أفلاطون معظم حياته يفعل هذا ( برغم أنه كان يحب المصارعة أيضاً ) . إن توفير الدلائل الداعمة لما نفكّر فيه هو أمر غاية في الأهمية و لكن تبادل الأفكار – كلاماً أو كتابة ً – لا يقلّ أهمية وحيوية عن وضوح الدلائل الفلسفية ،و قد تعلّمت أنّ من يخجل من طرح أفكاره على طاولة النقاش هو ذاته من يتجنب البحث المثابر في الدلائل الفلسفية المقبولة . لننظر إلى بعض الفلاسفة المعاصرين الأكثر شهرة في قدرتهم على صدم الجمهور :كريستوفر هيجنس ، ريتشارد دوكنز و أمثالهم من مناصري موجة تفنيد الآراء الواردة في النصوص المقدّسة و كيف يتّهمهم الجمهور بكونهم عدائيين مع أنّ الأصوب هو أن يوصفوا – كما أرى – بأنهم لا يخافون من إزاحة النقاب عن أية حماقات في المواضعات السائدة في حياتنا العقلية و إن من يتهمونهم بالعدوانية الصارخة هم في الأغلب ممّن يؤثرون السلامة و الراحة و الحفاظ على صورتهم السائدة لدى الجمهور . لذا أقول لك : كن شجاعاً و تحمّل قدراً من المواجهة الصعبة ،فهي لن تقتلك بل قد تساهم في توسيع آفاق معرفتك و فهمك .
• استنرعقلياً : متّع نفسك دوماً . كان الفيلسوف الأمريكي ( جيري فودور ) معروفاً بين الأوساط الفلسفية بأنه كان يروي الكثير من المُزَح في أعماله إلى الحد الذي صار فيه موضع اتهام بأنه قلّما تناول موضوعاته الفلسفية بالجدية و الصرامة اللائقتين و كان جوابه المختزل على هذه الاتهامات ” أنا أتعامل بأقصى درجات الصرامة و الجدة مع موضوعاتي الفلسفية ، و لكنني أتعامل بجدية أقل بكثير مع نفسي ” ، إذن تلك هي المسألة و هو ما ينبغي أن يسود دوماً : تعامل بجدية مع الأفكار و لكن التعامل مع نفسك أمر مختلف و يقتضي جدية أقل بكثير .
• العيش و الموت : ستكون أية فلسفة غير جديرة بأن تبعث فينا أي اهتمام إذا ما عجزت عن مساعدتنا في العيش من دون أن نخون قيمنا و أن نموت بلا خوف . وقف كلّ من ديوجينس و سقراط و فولتير موقف الرافض للمساومة على قناعاته الفلسفية و ما رآه جديراً بالثقة ، و نعرف تلك الحكاية التي تروى عن الإسكندر الكبير – الذي ملأ الكون بسطوته و جبروته – أنه طلب إلى ديوجينس الذي كان مستلقياً يتمتّع بأشعة الشمس بأن يخبره عن أعظم عطية ليقدمها هدية إلى الفيلسوف فما كان من الفيلسوف إلّا أن يجيبه ” من فضلك أطلب إليك أن تبتعد عن شمسي الرائعة ! ” . مات الكثير من الفلاسفة بعيداً عن أية مظاهر للخوف ،و ما زلنا نتذكّر تلك المأثرة المعروفة عن سقراط الذي تجرّع سم الشوكران بكل هدوء بعد أن أتمّ ليلة عاصفة من المناظرات الفلسفية الحامية . يمكن للفلسفة أن تثبت لك كل يوم – بالتجربة و المثال الجميل – أنّها قادرة على أن تصلّب عودك في مواجهة جميع أنواع الخوف وبخاصة في المواجهة المرتقبة و الحتمية مع الموت، لذا أدعوك إلى أن تمنحها الفرصة الكافية لكي تفعل فعلها الكامل والمبهج فيك.
______
* روائية من العراق/ المدى