وليد سليمان*
( ثقافات )
في كتابه الذي يحمل عنوان “مهنة القراءة”، تحدّث الإعلامي الفرنسي برنار بيفو عن إحدى حلقات برنامجه التلفزيوني الأدبي الشهير “أبوستروف” استدعى فيها المفكر والفيلسوف المرموق فلاديمير جانكليفيتش، ويشرح بيفو كيف أن مبيعات كتب جانكليفتش قد تضاعفت عديد المرات بفضل ظهوره التلفزيوني في البرنامج، قبل أن يختتم بالقول إن ما باعه الفيلسوف من مؤلفاته في الأيام الموالية لبث البرنامج يفوق ما باعه خلال كامل مسيرته الأدبية السابقة في عالم الأدب.
وفي فرنسا أيضا راهن أديب مشهور جدا تحقّق مبيعات كتبه أرقاما قياسية صديقا له، على أنّ دار النشر التي يتعامل معها منذ سنوات طويلة، لن تقبل مخطوط كتابه الأخير إذا أرسله باسم كاتب غير معروف. وكان ذلك ما حدث بالفعل، حيث رفضت دار النشر الكتاب بدعوى أنه لا يرقى إلى مستوى الأعمال الأدبية التي تنشرها، وبذلك ربح الكاتب الشهير الرهان، لكنّه خسر – ربّما- ثقته في جودة أعماله.
إن الحادثتين اللتين ذكرناهما آنفا تحملان دلالات كثيرة. أولها، أن جودة الكتاب وحدها لا تكفي لانتشاره، فكثيرا ما تحتاج الكتب (خصوصا عندما يكون الكاتب مغمورا) إلى معونة خارجية، قد تكون في شكل توصية، أو حملة دعائية أو حتى فضيحة…
والدلالة الثانية، هي أن سلوك القراء، في نهاية الأمر، ينحو منحا قطيعيّا ويسهل التلاعب به. فعندما يُؤلّه الكاتب وتحيط به هالة الشهرة – التي كثيرا ما تعمي عيون القراء- يصبح الناس متلهّفين على قراءة كتبه دون أن يتساءلوا عمّا إذا كانت جيدة أم لا.
خلاصة القول، إن القرّاء – وحتّى النقاد أحيانا- كثيرا ما يتغاضون عن جودة الكتاب عندما يكون مؤلّفه مشهورا. ذلك أنّ الناقد أيضا ليس من مصلحته أن يسبح ضد التيّار ويعرّض وجوده الأدبيّ للخطر، فعندما تصل شهرة الكاتب إلى درجة معيّنة، لن يكون أحد مستعدّا لأن يصدّق بأن كتبه رديئة، والأسوأ من ذلك هو أنه يمكن اتّهام من يشكّك في جودة أعمال الكاتب المشهور بأنّه يفعل ذلك عن حسد وبسوء نيّة، وأن ادعاءه مغرض ويهدف للحطّ من قيمة المؤلّف.
هناك عامل آخر مهمّ، وهو أن الأدب مرتبط أشد الارتباط بسياق عصره. فأحيانا يكون الناس غير مستعدين نفسيّا أو أخلاقيّا أو إيديولوجيّا لتقبّل فكرة أو أطروحة أو عملا أدبيا ما. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، ويمكن أن نذكر الأديب الأمريكي إدغار بو الذي عاش حياة تعيسة جدّا عانى فيها من سوء الفهم وقلة الاهتمام، ولم تلق قصصه البوليسية وقصص الخيال العلمي التي كان رائدا فيهما اهتماما كبيرا في حياته. لكن، لم تمض سنوات على وفاته حتّى أصبح هذان الجنسان الأدبيان الأكثر شعبية في أمريكا، بل أن أهمّ جائزة للأدب البوليسي في أمريكا صارت تحمل اسمه. وكان كافكا وبيسوا ولوتريامون قد عاشوا المصير البائس نفسه، ولم يحققوا الشهرة التي يستحقونها إلا بعد وفاتهم.
في نفس السياق، يروي الكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز في إحدى مقالاته أنه قضّى في بداياته خمس سنوات يبحث فيها عن ناشر لروايته الأولى “الأوراق الذابلة”، كما أن إحدى دور النشر الأرجنتينية قدا أعادت إليه مخطوط الرواية مرفوقا برسالة كتبها ناقد اسباني معروف ينصح فيها ماركيز بأن يشغل نفسه بأمر آخر غير الكتابة.
وفي الأرجنتين أيضا، كان على الكاتب الكبير خورخي لويس بورخيس في بداياته أن يوزّع نسخ كتابه الأول الذي صدر عام 1932 على أصدقائه ومعارفه علّه يثير اهتمام أحد، مع العلم أن عدد نسخ هذه الطبعة الأولى لم تتجاوز 300 ، لم تُبع منها تقريبا أي نسخة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل يكفي أن يكون الكتاب جيدا كي يحقق الشهرة لمؤلّفه؟ من المؤسف أن الجواب هو لا. فلا يكفي أن تكتب كتابا جيدا لتصبح مشهورا، وذلك لسبب بسيط: فلكي يعرف الناس أن الكتاب جيّد عليهم أن يقرؤوه، وفي الوقت نفسه لن يقرأ أحد كتابا لأديب غير معروف. نحن، إذن، إزاء حلقة مفرغة لن يتسنّى للكاتب المبتدئ أو المغمور الخروج منها إلا إذا خدمته ظروف خارجية، كأن يحصل على جائزة كبيرة تسلّط عليه الضوء وتخرجه من ظلمات النسيان، أو أن يقوم أديب مشهور بتقديمه وإطراء أعماله.
لذلك، إذا كنت كاتبا في بداية الطريق، فربّما أول شيء يتعيّن عليك فعله هو كسر هذه الحلقة المفرغة، وذلك لن يأتي إلا بالثقة في النفس والمثابرة. ومن يدري، لعلّ ظروفا خارجية تخدمك فتَقْصُرُ سنوات الانتظار، انتظار الاعتراف بموهبتك.
*كاتب ومترجم من تونس