( ثقافات )
ما إن يقع كتاب سامية العطعوط بيكاسو كافيه( ط1، دار الفارابي، بيروت، 2012) بين يدي القارئ، وقبل أن يقرأ المداخل المتعددة للقصص، وقبل أن يقرأ القصص نفسها والعناوين التي اختارتها لأقسام المجموعة الثلاثة، يستوقفه العنوان. فهو عنوان يجمع بين اسم لفنان عالمي معروف هو بيكاسو، واسم آخر هو كافيه اي المقهى. وسوف يكتشف القارئ أن لهذا التغريب في العنوان والتعجيب أثرا في بعض هذه القصص التي يشعر فيها الراوي بشعور التائه الغريب في كل مكان يذهب نحوه أو يغادره. فالواقع المحيط بالراوي – وهو شخص يتكرر في القصص- واقع غامض، عصي على الفهم، ممتلئ بالرؤى المحبطة ، والكوابيس.
وبيكاسو الفنان لا تخلو أعماله الفنية المشهورة من هذا التعبير عن رؤيته الغامضة للعالم. وقد اجتاز مراحل عدة في فنه منها المرحلة السوريالية. وفي ظني أن المؤلفة سامية العطعوط لم تغب عنها هذه الحقيقة. فإذا وقف القارئ على سبيل المثال عند المدخل الأول للمجموعة يجد الكاتبة تتحدث فيما يشبه الشعر عن نار بددتها، وعن نار توقظها من الرماد. وهذا شيء لا يخلو من تناقض غامض كالذي يجمع بين بيكاسو والمقهى. وفي مدخل آخر نجدها تجنح نحو السوريالية التي تحطم كل ما هو مألوف من الأشكال كاشفة عما وراءها من أشكال غامضة ومضمرة:
يمر بي الليل أسود
كما كان
يتكئ على الجدران
يثني ياقة الحزن
يطفئ لفافة الشوق
ينفض يديه من أحلامنا العرجاء
ويمضي وحيدا
فمثل هذه الصور التي تقفنا عليها العطعوط : ياقة الحزن، لفافة الشوق، أحلامنا العرجاء، الليل يمضي وحيدا، لا بطيئا ولا سريعا، صورٌ تذكر القراء بكوابيس سلفادور دالي.
والقسم الأول من أقسام المجموعة اختارت له عنوان مدن. ولكننا عندما نقرأ القصص لا نكتشف للمدن حضورا، مباشرا، وإنما هو حضور يختفي وراء كوابيس تريد بها أن تسبر الواقع المحيط بنا بما فيه من بشاعة وقبح. فالقصة الموسومة بعنوان بيكاسو كافيه تروي على لسان امرأة كيف عرض عليها بيكاسو عرضا مثيرا لكنها رفضته بشدة. وفي استخفاف لأنها ببساطة لا تريد أن تكون لوحة تباع وتشترى بالملايين في مزاد اللوحات الخالدة، فهي ُتؤْثر أن تظل مغمورة على أن تكون مشهورة يحتفي بها نقاد الفنان العالمي. ولكنها ما إن تمضي في هذا الكابوس حتى تكتشف أنها تستلقي بجوار بيكاسو في حجرة متداعية وهو يحاول أن يبذل قصاراه ليرسمها في تخطيط أوَّليّ لا يتجاوز ” الخربشة “. فما ترفضه هذه المرأة بوعيها، وتتأبى عليه، يلاحقها مثلما يلاحق غيرها من الناس. فهي لا يد لها، ولا إرادة فيما هي صائرة إليه ، فالواقع الكامن خلف المظاهر البراقة التي تعجُّ بالموائد، والمعجبات والمعجبين، يشف عن قسوة ما وراء هذا الواقع.
وفي القصة الأخرى” في المقهى ذاته ” يروي السارد شيئا عن غموض ذلك الشخص الذي لا يعرف اسمه، ولا هويته، وكل ما يعرفه عنه أن طويل القامة ضخم الجسم، ثقيل الظل، يتردَّد إلى المقهى باستمرار، ولا يجلس إلا في الكرسي نفسه، وهذا السلوك المتكرِّر يستفز الراوي الذي يحاول بدوره احتلال ذلك الكرسي، بأن يأتي للمقهى قبل ذلك الثقيل الضخم، ويجلس في الكرسي ذاته منتظرا متلهفا لمعرفة ردود فعل ذلك الرجل الطويل: ” بدأت أعد الدقائق والساعات .. أنتظر دخوله من الباب بلهفة كي أرى تعابير وجهه، وأضحك ملئ فمي “. وقد كان تصرفه مفاجئا للراوي، فما إن تخطى الباب للداخل مرتطمًا بالكراس والموائد المبعثرة في المقهى شاقا طريقه باستقامة نحو الكرسي ذاته، حتى قفز الراوي مبتعدًا عن الكرسي، ولولا ذلك لجلس ” ذلك الرجل في حضنه ” . فالطويل لا يرى إلا نفسه، ولهذا تجاهل وجود الآخرين في المقهى، الشعور بتضخم الذات يقابله الإحساس باللا حضور عند الراوي. وجهان متناقضان لواقع هذا العالم. فالبعض يراه كما هو والآخر يرى ما وراءه.
ويتكرّر هذا في قصة ثالثة قدمت لها بمقطوعة نثرية قصيرة عن مقهى يصطاد العشاق الأيتام، مقدمًا لهم كؤوسًا مسروقة من الشوق. إزاء هذا التردد المتكرر للمقهى، نجد الراوي- وهو أحد العاملين فيه- تستفزه تلك المواقف، التقاط الصور التذكارية بالكاميرات الرقمية أو بالهواتف المحمولة، وهو لذلك يقرر أن يخرج من هذه الرتابة المملة ، يقرر- مثلا- أن يمنح نفسه إجازة وأن يترك المقهى مغلقا مختوما بالشمع الأحمر لينتظر كيف يكون رد فعل هؤلاء العشاق. فما يؤرق هذا الراوي شيء مختلف عما يتوق له أولئك الزائفون الكاذبون الذين يستعذبون المظاهر البراقة والعلاقات المصطنعة. يريد أن يكتشف الحقائق الكامنة وراء ذلك الهراء: يريد رجلا حقيقا أو عاشقا صادقا أو كهلا ودودًا يجلس إلى جانبه ممددًا ساقيه في مكان رحب لا تصل إليه النظرات المتلصصة، ولا الأيدي الفضولية. ويبدو أن ما يسعى إليه هذا الراوي صعبُ المنال، بعيدٌ عن التحقيق.
هذا العامل، كغيره من شخوص هذه القصص، يحيا في رعب مَنْ يرى النسق المضمر خلف قشرة الواقع الزاهي، واقع أنيق لكنه زائف بقدر ما فيه من خواء الروح، ونضوب الوجدان. يريد مقهىً آخر باذخًا فعلا يمدد فيه ساقيه إلى أنْ يلامسا شاطئ البحر، أي أن الواقع الذي يحيط به، وبنا أيضًا، واقع مقيت مليءٌ بالقيود، التي تنم على موت المشاعر. إنه يتشوف بحرارة لعالم آخر بعيد عن التلصُّص، بعيد عن الأيدي غير النظيفة، الأيدي المتطاولة الفاسدة، الأيدي القذرة بتعبير سارتر.
وفي المقهى الخشبي صورة سوريالية عجيبة تُهنَّأ عليها الكاتبة.
فمُصمّمو هذا المقهى بارعون في التزييف، والتمويه، ولقد جعلوا من الطبيعة التي ترمز لها بالخشب الذي يحيلنا بجدرانه وعوارضه وأثاثه وألوانه إلى الغابات الخُضْر ، مذكرًا بأن تلك الملامس الناعمة في الأثاث المطعّم بعروق الشجر الميت ما هي في الواقعه إلا ضربٌ من التمتع بمرأى الجثث.
ولتكرا الصورة المرعبة لهذا المقهى ” الكابوس ” يتذوَّق السارد القهوة متلذذًا بمذاقها الخشبيّ.
والخشب الأنيق هذا لا يعدو كونه مِصْيَدة، تقتنص الزبائن، وتجتذبهم بذريعة الجمال المصطنع الزائف ليكتشفوا بعد وقت غير طويل من الانبهار والاستسلام لذلك البهاء أنهم كانوا فريسة سهلة لهذا الخداع، فأحد مرتادي المقهى يهم بالنهوض، والمغادرة، فلا يستطيع النهوض، ولا المغادرة، ولا تحريك قدميه أو ساقيه أو جذعه، فكأن قوة خارقة تجذبه للكرسي وتشده وتجعله به لصيقا، فيصرخ بأعلى صوته مستنجدًا، ليخبره النادل بأن عليه أن يخلع قوائم الكرسي، ويأخذها معه لاستخدامها عكازاتٍ، وإلا فإنه سيظل لاصقا بالكرسي، ولن يستطيع المغادرة.
ولأن هذه الصورة المروِّعة المرعبة للمقهى الخشبي، واقتناص أحد مرتاديه، لا تكفي لتوضيح ما يختبئ خلف قشور المشهد، يضيف الراوي صورة أخرى ، تلقي عليه هو مزيدا من التبئير. فبعد أن انتهى من احتساء قهوته بمذاقها الخشبي ، واعتزامه دفع الحساب، والمغادرة، مثلما غادر الزبون السابق، وجد نفسه عاجزاً عن النهوض، ولا يستطيع الحركة، وقدماه تسمَّرتا بالأرض، والألم الكبير يغزو جسمه، فلا يكاد يحس إلا بجذعه، وجرْمهِ العلوي. ولم يفدْهُ الصراخ، ولا ضربُ المائدة بكلتا يديه، وجاءه النادل مستجيبًا لاستنجاده، وقام – أي النادل- باقتلاع قوائم الكرسيّ، وقدمها له قائلا تستطيع استخدامها عكازاً.
ولأن القارئ يستغربُ مثل هذا السرد العجائبي تستدرك الكاتبة فتنسب هذا الاستغراب للراوي، الذي راح يضرب نفسه، فاركا عينيه، وأجفانه، ليتحقق مما إذا كان الذي جرى له وللزبون الآخر كابوس أم أنه حقيقة واقعية. وعندما تأكد من أنه لم ينم، ولم يغفُ، تقبل ما قُدر له وكتب عليه، ولملم عكاكيزه، وغادر المقهى كالمجنون لا يلوي على شيء. حقا إن هذا المقهى يمثل بما ينطوي عليه من بدائع النحت والنقش والزخرف في الخشب المطعَّم والمُعرَّق والمُموَّه نموذجا لما نحن فيه من تضليل وخداع، ومن تزييف يتغيا إخفاء حقائق الواقع، وهو أننا مطاردون بتلك العكاكيز، مجبرون على ذلك اللصوق بالكراسي، وينبغي علينا أن نصرخ مستنجدين لكي نكتشف بأعيننا ما ينتظرنا في الواقع الآخر المخبوء خلف واقعنا المموه بنشارة الخشب. وهذا الجنون نجده غالبًا في جل القصص التي تنطوي عليها المجموعة ” بيكاسو كافيه “: كافكا في المدينة. أفاعي. البطيخة. أحدب في عمان. وغيرها.. فالكاتبة، التي قرأنا لها من قبل ” جدران تمتص الصوت ” و “طقوس أنثى ” و ” طربوش موزارت ” و ” سروال الفتنة ” و ” قارع الأجراس” لا تفتأ تشقُّ طريقها بجرأة نحو كتابة قصصية جديدة تقتربُ بها من السوريالية.
* ناقد وأكاديمي من الأردن