إمبراطورية الأسرار




*ترجمة :كريم المالكي

تشمل “أرض الأنكا”، وهي الحضارة التي اشتهرت كأحد أكبر الإمبراطوريات في أمريكا الجنوبية في العصر قبل الكولومبي، كلاً من بوليفيا والبيرو والإكوادور وجزءًا من تشيلي والأرجنتين. وقد شيد شعب”الأنكا” في جبال الأنديز مدينة مترفة ومليئة بالمعابد والقصور تقع على ارتفاع 11000 قدم فوق مستوى سطح البحر.

وقد حاولت حضارة “الأنكا” أن تقف بقوة لدرء تلك الكوارث الطبيعية التي كانت تقف على حزام النار للمحيط الهادي، وأظهرت هذه الحضارة المتقدمة جانبًا غامضًا بل يكاد يكون واحدًا من أسرارهم الكثيرة متمثلاً بتلك العادة التي انتهجها شعب “الأنكا” بالتضحية بالأطفال لإرضاء الطبيعة، كما يوضح ذلك العالم كيم ماكويري وهو أحد روّاد الأنثروبولوجيا.
ويشير هذا الكاتب في اقتباس مأخوذ من خوان دي بيتانزوس في عام 1551 يقول فيه التالي: هؤلاء الأطفال (لا بد من التضحية بهم إلى الجبل والآلهة الأخرى) وسيتم جمعهم من جميع أنحاء الأرض وسيحملون بالمهود معًا… وينبغي أن يرتدوا الملابس الأنيقة جدًا، ويأتوا إناثًا وذكورًا. ويقول اقتباس آخر لبرنابيه كوبو في عام 1653 التالي: إن الطبيعة البشرية للإنسان لا تسمح له بقتل أطفاله.. ما لم يكن يتوقع جزاءً أو أجرًا أفضل عما كان يفعل، أو ما لم يعتقد أنه سيرسل أطفاله إلى مكان أفضل.
أصبحت في القرن الخامس عشر الميلادي إمبراطورية شاسعة امتدت عبر قارة أمريكا الجنوبية، وكان كهنتها فلكيين يدرسون مسارات الكواكب. وكانت دولتهم في قمة مجدها مثالاً ممتازًا للتنظيم الاجتماعي فلكل فرد من الملك وحتى الفلاح عمل محدد يقوم به.
“رومان” العصر الحديث
كانوا معماريين ماهرين أنشأوا شبكة شوارع تربط جميع مدنهم، وخبراء في الزراعة وتربية الحيوانات، كما أجادوا صناعة الأقمشة والحلي. لقد كوّن “الأنكا”الذين هم جماعة متفوقة، على الرغم من عددهم الذي لا يصل إلى أكثر من 100 ألف فرد، أكبر إمبراطورية وطنية في العالم الجديد، تمتد على مسافة طولها 2500 كيلومتر، من جنوب كولومبيا الآن إلى وسط تشيلي مرورًا ببعض أكثر دول العالم الجبلية والتضاريس الصعبة.
غير أن الغموض المثير للبيئة الطبيعية وأسرارها التي كانت عليها إمبراطورية “الأنكا “سيكتشف عندما يتم تسلق ألفي قدم فوق دروب الغابات التي تناطح السحاب في جنوب شرق بيرو وصولاً إلى مدينة “ماتشو بيشو” الأسطورية، وهي مدينة مترفة ومليئة بالمعابد والقصور، بنيت لتصبح منتجعًا ملكيًا لإمبراطور “الأنكا”، التي تبدو وكأنها تتمسك بجبل يقف على ارتفاع 11000 قدم فوق مستوى سطح البحر في جبال الأنديز.
وقد أطلق عليها مدينة الشمس المقدسة، وتبلغ مساحتها 990000 كيلو متر مربع. وتحوي المدينة التي تحاذي السحاب لوقوعها على ارتفاع جبلي شاهق النوافير، ومذابح القرابين ومراصد علوية ومباني صممت بطراز رائع من كتل الجرانيت الأبيض – والبعض منها يزن أكثر من 50 طنًا – وهو ما يعكس العبقرية الواضحة التي يمتلكها شعب “الأنكا”.
وعلى الرغم من أن إمبراطوريتهم موجودة لأقل من 100 عام قبل وصول الأسبان في عام 1533، نجح “الأنكا” في إنشاء 26 ألف كيلو متر من الطرق، وكان تحت حكم الإمبراطورية 10 ملايين شخص، وفرضوا لغتها وثقافتها من أحد أطراف جبال الأنديز إلى الطرف الآخر. وبالمعنى الحقيقي للكلمة، فإن الأنكا هم “رومان ” العالم الجديد، وكانوا على غرار الرومان إداريين من الدرجة الأولى وبناة إمبراطورية. ومع ذلك، فإنهم كما فعل الرومان، اقتبسوا الكثير من جوانب حضاراتهم – من تعدين وحرب و هندسة معمارية في الزراعة وتربية الحيوانات، وعلم الفلك – وكذلك أخذوا من غيرها، من الحضارات التي سبقتهم ومن الثقافات السابقة.
التضحية بالأبناء للآلهة
كما أنهم أخذوا وحولوا وأدمجوا معتقدات العديد من الأديان الأخرى في أمريكا الجنوبية، بما في ذلك التضحية بالحيوان والبشر. وقبل أيام ظهرت في الصحافة صورة لفتاة من حضارة “الأنكا” عمرها 15 عامًا، وكانت في سن المراهقة وجميلة وخالية من العيوب ضُحي بها قبل أكثر من 500 عام على قمة بركان على ارتفاع 22 ألف قدم في شمال الأرجنتين.
وقد وجدت جثتها المحنطة من قبل علماء الآثار في عام 1999، وهي الآن تعرض لأول مرة في متحف في الأرجنتين. إن الفتاة التي تم تخديرها بأوراق الكوكا وتركت الفتاة لتتجمد حتى الموت في أعالي جبال الأنديز، وهي الوفاة التي لا معنى لها على ما يبدو للقراء في الوقت الحاضر.
إن الكشف عن وفاة الفتاة المفاجئة يثير تساؤلاً واضحًا: لماذا “الأنكا”، وعلى الرغم من كونهم واحدة من الحضارات المتطورة والأقوى التي لها منجزات في العالم الجديد، تشعر بالحاجة للتضحية بأبنائها على قمم الجبال؟،والجواب يمكن العثور عليه في مزيج غريب من معتقدات”الأنكا” الدينية، والكوارث الطبيعية، والصعوبة الهائلة في محاولة البقاء على قيد الحياة وسط المرتفعات المتجمدة التي تقع بواحدة من السلاسل الجبلية الأكثر تقلبًا في العالم.
نشأت إمبراطورية “الأنكا” في غرب أمريكا الجنوبية، وهي واحدة من ست مناطق فقط في العالم التي وجدت فيها مجتمعات على مستوى الدولة (الآخرون هم أمريكا الوسطى والصين وبلاد ما بين النهرين ووادي السند ومصر). وكانت “الأنكا” واحدة من أحدث الحضارات المتعددة التي نشأت في غرب أمريكا الجنوبية وأخذت من الحضارات الأولى مثل حضارة، شيمو وموشي ونازكا و تيواناكو. لقد بدأت “الأنكا” بزوغها المفاجئ إلى السلطة في أوائل القرن 15 بقيادة إمبراطور يدعى باشاكوتيك.

نظام إداري متطور
ومن خلال التهديد والتفاوض أو الغزوات الدموية، بدأ باشاكوتيك وخلفاؤه إخضاع المقاطعات المجاورة وحددوا عدد الفلاحين الذين يدفعون الضرائب وكذلك تم تنصيب حكام إداريين محليين من “الأنكا” قبل أن تتحرك جيوشهم إلى مكان آخر. وإذا ما كانت النخب المحلية متعاونة، فيسمح لهم بالاحتفاظ بمناصبهم وامتيازاتهم وتتم مكافأتهم لتعاونهم. أما إذا كانوا غير متعاونين فتتم إبادتهم، مع أنصارهم.
وكما هو الحال مع الإمبراطوريات الأخرى التي تعتمد على الزراعة، فقد بنيت حضارة الأنكا الحكم على المعاملة بالمثل بين نخبة ” الأنكا” والفلاحين، الذين من المتوقع أن يدفعوا الضرائب على شكل سلع وعمل؛ وبالمقابل، فإن الدولة تزود مواطني الإمبراطورية بالأمن والقوانين والإدارة وأيضًا بالإغاثة الطارئة في فترات المجاعة أو الكوارث الطبيعية.
لقد شيدت قبائل “الأنكا” مخازن ضخمة مليئة بالأطعمة والسلع. وإذا ما تعرضت منطقة ما من الإمبراطورية إلى الجفاف أو أي شكل آخر من المصائب أو الكوارث يتم سحب الغذاء والتموين من المخازن ويعاد تزويدها من جديد عند زيادة الإنتاج المحلي مرة أخرى. وإذا هوجمت منطقة أخرى من قبل القبائل المغيرة، سرعان ما تصل جيوش “الأنكا” لصد المهاجمين واستعادة النظام. ومن خلال ضريبة العمل بنى سلسلة من حكام “الأنكا” المدن الجديدة وشيدت شبكات الطرق والجيوش الجرارة، والمخازن المليئة وتوسعت إمبراطوريتهم.

تعاملوا مع الكوارث الطبيعية
وعلى الرغم من أن “الأنكا” أنشأوا إمبراطورية تناغمت بجماليتها بفضل المهندسين الذين تمكنوا من تحويل الجبال الوعرة ذات الغابات الممطرة إلى مدن مثل ماتشو بيتشو، حتى أنهم استطاعوا التعامل مع الكوارث الطبيعية التي ضربت مرارًا غرب أمريكا الجنوبية.
إن إمبراطورية “الأنكا” أقيمت على جبال الأنديز، التي شكلت أيضًا الطرف الغربي للحافة الغربية من أمريكا الجنوبية. وهكذا بنت “الأنكا” إمبراطوريتها ضمن ” حزام النار” للمحيط الهادئ، حيث البراكين التي تتفجر بشكل دوري. وبسبب شيوع الصفائح التصادمية، والزلازل العنيفة، كانت تدمر المدن والبلدات. وبالإضافة إلى ذلك كان تعاني الإمبراطورية من الأعاصير ما يؤدي إلى فيضانات تعطل الإمدادات الغذائية.
وردًا على مثل هذه الظواهر الطبيعية لجأ “الأنكا” إلى المعتقدات الدينية. وبحسب الأنكا، فإن السيطرة على البرق والزلازل والثورات البركانية والأمطار وتقلبات الطقس والخصوبة تأتي عبر مجموعة واسعة من الآلهة. ومن أجل البقاء في عالم لا يمكن التنبّؤ به، فقد سعى “الأنكا” إلى تكوين علاقات متبادلة مع آلهتهم، تمامًا كما هو شكل العلاقات المتبادلة مع بعضهم البعض أو مع القبائل الأخرى.
وكان “الأنكا” يعبدون “إله الشمس” أو “إنتي”، الذي يجعل الزراعة ممكنة. وكان حاكم “الأنكا” يعتبر نفسه ابنًا للإله الشمس، وبالتالي كان يُعبد أباطرة الأنكا ويعتبرون مقدسين . ولأجل إنشاء علاقات مع آلهتهم، كان “الأنكا” يمنحونهم مجموعة متنوعة من القرابين.
وتمتد من صلاة بسيطة وغذاء وأوراق الكوكا والقماش المنسوج وصولاً للحيوانات التي يتم نحرها، وفي التضحية الكبرى يكون البشر. وفي أوقات خاصة غير مؤكدة، مثلاً عندما توفي الإمبراطور، أو عندما تندلع البراكين أو الزلازل الشديدة أو مع انتشار المجاعة يضحي الكهنة بالمحاربين الذين تم أسرهم أو ربوا خصيصًا، ويكون الأطفال الضحايا الأمثل للآلهة. ويعتقد “الأنكا” بوجود الآخرة، وأن الأطفال الذين ضحوا بهم سيعيشون حياة أفضل، حيث قدموا لتأمين زخم أكبر للعالم.
وعلى الرغم من أن الغزاة الأسبان بذلوا قصارى جهدهم لإبادة المعتقدات الدينية للأنكا، إلا أنهم لم يكونوا الحضارة الأولى التي تلجأ إلى التضحية البشرية لآلهتها في أوقات الشدة أو الحاجة فهناك المغول والسكيثيون والمصريون وغيرهم.
لقد بذل “الأنكا ” قصارى جهدهم لفهم ما لا يمكن أن يسبر غوره، في ذلك الوقت، – وهو عنف الطبيعة والكوارث لا يمكن التنبّؤ بها والتي، في بعض الحالات، قد أنهت الحضارات التي سبقتهم. ولأجل ضمان مصداقيتهم بذل “الأنكا ” قصارى جهدهم لضمان بقاء شعوبهم والإمبراطورية بفضل إيلاء اهتمام كبير بالطبيعة وفعلوا جلّ ما يستطيعون باستخدام كافة الوسائل المتاحة، بما في ذلك التضحية البشرية، ليتمكنوا من السيطرة عليها.
والمفارقة هو أنه بعد أكثر من 500 سنة، حينما وضع الأسبان نهاية ربما للإمبراطورية الأكثر إثارة في العالم الجديد، لا نجد جبال الأنديز والأنهار الجليدية في جميع أنحاء العالم هي التي تتقلص فقط بمعدلات غير مسبوقة مع ارتفاع درجات حرارة الأرض، بل إن هناك تغيرات وأضرارًا لحقت بالنظم الإيكولوجية. ومع ذلك فإن الحضارات الجديدة التي حلت محل الأنكا تبدو لا تبالي، في أحسن الأحوال، في صنع أي نوع من التضحية من أجل السيطرة على أي كارثة بيئية محتملة.
__________
*عن الجارديان البريطانية/الراية 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *