في حضرة ما نريد


غازي الذيبة *

( ثقافات )


في عام 1982 كان عاطف علي الفراية قد استقر في حي الارمن قادما من الجديدة، وحكمت النوايسة من المزار وعطا الحجايا من الحسا. أول لقاء لي بهم كان مع عاطف، الذي استقر في حي الارمن مع عائلته، والقريب من مخيم الجوفة، مقر سكناي، ومضت صداقتنا لتتعدى حدود الغيمة الرابضة في سقف السماء، أبعد مما كان يظن الوقت.. لم أسأل عاطف من أين أتيت ولا هو سالني من أين اتيت. كان الشعر أولا يجمعنا، عرفني على حكمت بعدها، وعلى عطا، ومضت الايام، كان عاطف احد ابناء مريم، امي، التي لا تعرف الى اليوم برحيله، ولو عرفت لا أدري ماذا سيحدث لها.. وفي كل مرة تسالني شو اخبار الكركي، تقصد عاطف.
هي تسال عنه بهذه الصيغة، فبعد ان اخبرها بانه من الجديدة، فرحت، لان أحد ابناء عمومتها عاش في مدين، وما يزال بيته هناك قائما، والكرك عند مريم .. روح خالصة للمحبة، تتغنى بها أمامنا.. 
كان عاطف وحكمت وعطا لدي، اكثر من أصدقاء. صحيح ان لقاءاتي بعاطف كانت شبه يومية، وبحكمت مقتصرة على السوانح، أما عطا، فلم يكن يتسنى لنا ان نلتقي الا في حدود الجامعة الاردنية، يوم كنا نزورها ونقرئ اصدقاءنا شعرنا. لكن حكمت وعطا كانا حاضرين يوميا في احاديثنا.
حين كنا نتحدث عن فلسطين، لم يكن الحديث يقف عند النقطة التي تجعلها عبئا على الاردن. كانت فلسطين اولا، في خطابنا، فلسطين التي نحلم بتحررها ونكتب شعرنا لها، ونتغنى بها، وما نزال الى اليوم.. 
قضيت مع الحبيب عاطف، أكثر لحظاتي تنشقا لهواء فلسطين التي كان يكتب لها قصائده، كما يكتب للكرك، من دون ان يُجعلك وجه أحد، سوى العدو الذي يمنعنا من ان نهبط الى وطننا معا.
ولكم اختنقنا لمألمة في فلسطين او في شتوة الذئاب في الطفيلة..
ولكم دمعت أعيننا لحدث مس هذا الطرف او ذاك في البطين الايمن والبطين الايسر.
انا ابن الخليل، لم اكن لانتبه الى أن ابن الكرك يمكنه ان يلتفت الي بنزعة تفرقنا، فالفتى الذي كان ينادي مريم مثلي: يمة، ويدلف الى المنزل لياكل الطعام من تحت يدها بحضوري او بعدمه، كان يرى بحاسته النقية الاصيلة، ان الفرق الوحيد بيننا هو ان لا نكون هنا.. في الاردن.
لم يتذمر من وجودي واستحقاقي فرصة عمل كان هو اولى بها، او شربة ماء كان يستحقها اكثر مني، او فولت كهرباء كان عليه ان يستفيد منه اكثر مني لانه ابن البلد، على حد تعبير بعضهم. 
كل ما هنالك انه كان يتذمر من عدم تشغيله في البنك العربي، ثم يقهقه قالبا على ظهره، صاروا يشغلونا وحلقوا الك..
حتى اليوم حين التقي بحكمت تدمع اعيننا حين نتحدث عن مآلات الوضع في البلاد العربية..وحين ارى عطا، فكما لو ان المسافة بيننا هي بضعة مللميترات .. لا اكثر، كل شيء على ما هو عليه، فلسطين هي البلد التي نريد ان نحررها والاردن هي البلد التي نريد ان نجعلها أجمل من سويسرا. فلماذا تنغصون علينا عيشتنا يا مرضى الانعزالية.. ولماذا تريدون تخريب ضحكتنا الصافية في صحن الالم.. 
أما عاطف، فأنا اكتب اليوم، وانا اتذكر أنني فقدت أخي الاكبر مبكرا، والدمعة يا حكمت تحرق قلبي .. فدعنا صامتين ولو قليلا في حضرة ما نريد يا صديقي.
* شاعر وإعلامي من الأردن

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *