مفهوم التسامح..بين الواقع والكتب والقانون


*خلود الفلاح

( ثقافات )

العلاقة بين التسامح والغير كانت المحور الرئيسي للمحاضرة التي قدمها الدكتور نجيب الحصادي وعنوانها” تأصيل نظري لمفهوم التسامح” بإشراف الجمعية الليبية لأصدقاء اللغة العربية بمدينة بنغازي يوم الاثنين 20_1_2014، 
في هذه الورقة طرح الحصادي عدة أسئلة حول مفهوم التسامح محاولا تلمس أجوبة لها، فتسأل عن معنى التسامح، لغة واصطلاحا، وعما إذا كان التسامح قيمة مطلقة ترام لذاتها أو أداة نتوسلها لتحقيق غايات أسمى، كما أتساءل عن كيفية التأسيس القيمي والسياسي للتسامح، وعما إذا كان التسامح نوعا من الشفقة على من نتسامح معه، وما إذا كان يلزمنا التسامح مع من يرفض التسامح معنا. وعن هذه العلاقة بين التسامح والغير قال الدكتور نجيب الحصادي: التسامح في أصله إنما يتم مع الغير، وهذا ما يعطيه أهميته الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، والتساؤل عن التسامح مشروع فلسفيا، والمقاربة الفلسفية هي التي تهب الحديث عن التسامح مغزى محددا، عوضا عن أن يكون مجرد تعبير عن عواطف تنتاب البعض.
علاقة التسامح بالواقع
أثناء المحاضرة أثير جدل حول مفهوم التسامح الفلسفي من حيث لا علاقة له بالواقع.. فمن اين يستمد مفهوم التسامح وجوده من الواقع أم من الفلاسفة والكتب؟ وهنا أجاب الحصادي: التسامح ممارسة بشرية، وهو لا يحتاج لإثبات وجوده إلى حجج فلسفية، غير أن القضايا التي يثيرها مفهومه هي التي تستدعي مثل هذا الحجاج. ويضيف الحصادي: ثمة في أدبيات علم السياسة مفهومان شائعان للتسامح يشرعنان ممارسات متباينة. المتسامح وفق المفهوم الأول جهة أو شخص يقبلنا ويتعايش معنا بعض الوقت، لكنه ينكر علينا معتقدنا ويتحين الفرص لحملنا على رؤيته (الصحيحة) والامتثال لمعاييره (السليمة) والركونِ إلى مبرراته (الوجيهة). إنه يرضى بنا، لكنه لا يرضى عنا إلى أن نرضى بما ارتضى.
هذا صنف استعلائي واحتوائي ومتربص من التسامح، وهو موضعُ اشتباه قيمي ومدعاةُ احتراز أخلاقي أساسا بسبب ما يعزز من توجهات دوغمائية، ويرسخ من نزعات بطريركية، ويتوسل من أساليب براجماتية، ويمارس من سلوكات انتهازية، ويضمر من نوايا غدرية. ذلك أن المتسامح المستعلي يقطع بأن من يتسامح معه يعاني من اختلال في الوعي ويتشبث بعقائد باطلة، وهذا مأتى دوغمائيته. وهو يرثي له ويشعر أن من واجبه أن يجعله أقل مدعاة للرثاء ولا ينتظر منه سوى حمد فضله والعرفان له بما أسدى من صنيع، وهذامدار بطريركيته. وهو يماريه ويتربص به ويحمله على ما ينكر، وهذا مناط براجماتيته وانتهازيته وغدره.
التسامح المعياري، النوع الثاني من التسامح، هو تسامح من يقبلنا ويتعايش معنا ليس لأنه عاجز عن حملنا على اعتناق معتقده، فمسألة الحمل لا تخطر بباله أصلا، بل لأنه يدرك أن حقنا في مذهبنا ليس أقلَّ من حقه في مذهبه. إنه يرضى عنا حتى إن لم نرض بما ارتضى. وقد يأمل المتسامح معنا بهذا المعنى في أن نكون مثله، نسلك كما يسلك ونطمئن إلى ما يطمئن إليه، غير أنه يقف عند حدود هذا الأمل. إنه لا يتعايش معنا لأنه يصبر علينا، بل لأن قيمه تمنعه من مصادرة حقنا في الاختلاف معه. وعلى الرغم من أنه قد ينكر على المستوى الانفعالي والوجداني المواقف التي يتسامح معها، فإنه يقبلها على المستوى العقلي والفكري استنادا إلى مبدأ المساواة الذي يمنح الجميع حق اتخاذ مواقف متباينة من القضايا التي تحتمل الخلاف.
ويبدو أن ممارسة التسامح المعياري تتطلب درجة عالية من الدراية المعرفية والسمو القيمي يعجز عن بلوغها المتسامح الاستعلائي؛ فلكي يفهم المرء أن الرأي الذي يدافع عنه ليس سوى فرضيته المفضلة، يحتاج إلى أن يحقق درجة كبيرة من الوعي المعرفي والنضج الأخلاقي.
ويتضح التمايز بين هذين النوعين من التسامح في سياق تعامل المجتمعات مع حقوق أقلياتها. إذا شعرت الأغلبية بأنها تمنح حقوقا للأقليات منّة وتفضلا، كما لو أنه بمقدورها ألا تفعل ولا يلزمها أن تفعل، فإنها تمارس تسامحا استعلائيا. أما إذا شعرت الأقليات بأن المنافع والمزايا التي تتمتع بها حقوق أصيلة لها، ولم يكن لدى الأغلبية سبيل شرعية لإنكار هذه الحقوق عليها، فثمة تسامح معياري متبادل يمارس بين الاثنين. وهذا بطبيعة الحال هو مؤدى استحقاق الدساتير التوافقية التي تصاغ وفق اعتبار صريح لحقوق مختلف شرائح المجتمع.
التسامح يتحقق بالقانون
قلت أثناء المحاضرة السجين أكثر تسامح وحاولت توضيح ذلك بوجود عدة قيم كالجمال والأخلاق ولكن إلا ترى إن السجن بحد ذاته يمثل فكرة التسامح باعتباره معطى معرفي يتعرف فيه السجين على المعنف مباشرة ويختلط بأناس تعرضوا لهذا العنف؟ فكان رده: بالتأكيد أن هناك سبلا أفضل وأقل بشاعة من السجن والعنف لتمثيل فكرة التسامح، رغم أن خلوة السجن قد تكون مناسبة لتحقيق إنجازات على المستويين الفكري والنفسي. 
القانون يجيز التسامح عبر ترك مساحة للعفو، لكنه لا يكره الضحية على التسامح مع جلادها. الوعي والسمو الأخلاقي والإحساس بالمسؤولية الوطنية في زمن العسرة مصادر متعددة ممكنة للتسامح.
وممارسة التسامح الاستعلائي في سياق التعامل مع المارقين عن الشرائع الدولية إنما تعني الحد من خروقات تهدد وجود المجتمعات المستعلى عليها، إذ ليست هناك جماعة تبقى لزمن طويل ما لم تكن تحظر القتل والسحل والاغتصاب والتعذيب والخطف، ولو لم تجرّم المجتمعات البشرية التي صمدت حتى يومنا هذا مثل هذه الخروقات لهلكت قبل أن تتاح لها فرصة الاختلاف. وفي النهاية، ليس للمجتمع الذي تنتهك فيه حقوق الإنسان أن يعول كثيرا على حقه في الاختلاف لأن مآل استمراره في انتهاكها أن يقضي عليه بحيث لا يعود يجد فرصة في أن يختلف مع أحد.
ويتبدى أن للتسامح المعياري علاقة آصرة بالوعي المعرفي. آية ذلك أننا قد نعرف أن مورثات المرء تسهم في تشكيل قدراته الذهنية وأحواله النفسية، وفي استسلامه لرغابه وعجزه عن مقاومة مخاوفه، وقد نصبح بسبب هذه المعرفة أميل إلى عذره فيما يقر من أحكام ويجترح من أفعال. وحين تبين دراسات في علوم الهندسة الوراثية أن النساء يشبهن الرجال أكثر من أي شيء آخر على وجه الأرض، وأن التكوين الجيني للأعراق البشرية متشابه في أصوله حد التماهي، قد يعرف الذكر الأبيض أنه لا حظوة لجنسه أو عرقه بأية امتيازات خاصة، وقد يتخلى عن نظرته الدونية إلى الإناث والملونين ويكف عن عمليات القمع التي يمارسها ضد أي منهما.
ولعل علاقة المعرفة بالوعي المعرفي هي ما يفسر كون العزل والإقصاء وتصفية الحسابات وسائر الممارسات الرافضة للتسامح دأب من يضيق أفقه ولا يتسع ضميره إلا لمن يفكر على شاكلته ويذهب مذهبه. غير أن هذا العلاقة ليست طردية دائما. ذلك أن الأكثر تحضرا وعلما والأكثر بدائية وجهلا غالبا ما يكون أشد تسامحا وعفوا ممن هو أقل تحضرا وعلما ومن هو أقل بدائية وجهلا، ويبدو في الغالب الأعم أنه لا أضيق فكرا ولا صدرا من أنصاف المتحضرين وأنصاف المتعلمين.
________
*شاعرة وإعلامية من ليبيا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *