*محمد ولد محمد سالم
انبسط نفوذ الدولة الإسلامية على رقعة جغرافية واسعة شملت أجزاء كبيرة من آسيا وإفريقيا وأوربا، وضمت تحت لوائها أمماً وأعراقاً بشرية متعددة ومتنوعة الثقافات واللغات والحضارات، وورثت منها ملامح تراث متعددة، من أكبرها دولتا فارس وبيزنطة، وكان لهذا الانتشار والتنوع أثره في صياغة الوجه الحضاري للدولة الإسلامية على مستويات عدة منها التنظيم الإداري والعادات الاجتماعية والتفكير الفلسفي، لكن أهمها هو التأثير الفني لتلك المجتمعات، فقد نشأ من تلاقح فنون تلك الأمم مع فكرة التوحيد الإسلامية وتفريعاتها ما عرف بالفن الإسلامي .
كان لكل منطقة جغرافية، وكل مجتمع من المجتمعات الإسلامية تأثيره في صبغ الفن الإسلامي بصبغته الخاصة، وإغنائه بأسلوبه، وهكذا ظهرت فنون الزخرفة والأرابسك (التوريق)، وفن الخط العربي، وفنون العمارة الإسلامية، والفنون التطبيقية من خزفية وفخارية ومعدنية وخشبية وزجاجية، وفنون النحت والتصوير، وفنون الموسيقى، والغناء، والرقص، وفنون الأداء والتمثيل، وقد حللت أوراق ندوة “انعكاسات مكانية في الفنون الإسلامية” المصاحبة للدورة السادسة عشرة من مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية هذا الموضوع بعمق .
لو استعرضنا مسيرة فن الخط العربي مثلاً سنجد أن تأثير الفرس والأتراك فيه واضح، فخط النسخ والخط الفارسي والديواني والطغرائي، وخطوط كثيرة غيرها نشأت في هاتين البيئتين، وكذلك فنون صناعة الأحبار والأقلام، وإدخال الخط في العمارة الإسلامية، هو فن أبدع فيه العثمانيون إلى أبعد الحدود وكانت لهم أساليب متنوعة في تكييف الحرف والنص مع شكل المعمار الذي يكتب عليه، وربما تكون تلك الإمكانات في التكيف أتتهم من تأثير فن العمارة البيزنطي الذي كانت القسطنطينية عاصمته، قبل أن يبسط عليها العثمانيون نفوذهم، ويجعلوها عاصمة ملكهم، كذلك دخل فن الخط في زينة الآنية والأدوات جميعاً، لدى سائر الشعوب الإسلامية، وقد جاءت أروع خطوط الزينة على يد فناني بلاد فارس وأفغانستان والهند، وقد زود التعامل مع مساحات متعددة، تتسع حتى تكون بحجم قصر الحمراء، وتدق حتى تكون بحجم حبات السبحة، حيث تميز الفنان المسلم بدقة عالية، وحساسية شديدة في صناعة التناسق والانتظام في أعماله مهما صغرت أو كبرت، كما جعله التعامل مع مختلف السطوح والأشكال الهندسية في العمارة والآنية قادرا على تكييف حروفه مع جميع تلك الأسطح، فاخترع التركيب والتعليق في النصوص، وتصرف في نسق الكلمة، ففككها وركبها حسب حاجته .
كان للخط في الفنون الإسلامية حضور خاص، فهو فن مستقل، وفي الوقت نفسه هو أسلوب وتقنية فنية تدخل في تشكيل كل الفنون الأخرى، نظراً لأن المراد منه أصلاً هو التعبد بالنص الذي يكتب به، والتبرك به، لأنه إما آيات قرآنية أو أحاديث شريفة، أو ما يدور في سياق معانيهما، وهكذا زين الفنانون المسلمون كل ما أخرجته أيديهم من المصنوعات وما شيدوه من العمائر بالآيات القرآنية والعبارات الدينية، فكتبوا على الخشب والعاج، والخزف، والزجاج، والأقمشة والطنافس وجدران المساجد والقصور والدور والأضرحة والسبل .
من التأثيرات المكانية أيضاً أن ظهور فن المنمنمات في بلاد فارس، وهو نوع من التصوير التعبيري يصاحب النص المكتوب، خصوصاً النصوص الحكائية والشعرية، ويتسم بالدقة، والتنوع اللوني، ويرجح أنه من إرث دولة فارس التي برع أهلها في فنون الرسم والزينة، ومنهم جاءت أيضاً فنون الزخرفة التي اقترنت بفن الخط العربي، كما دخلت كعنصر تكويني في فنون أخرى، وقد اخترع العرب المسلمون فناً تزيينياً خاصاً هو فن “الأرابيسك” أو التوريق (التزيين بالرسوم النباتية)، ولجأوا إليه احتيالاً على الزينة التصويرية التي كانت سائدة في حضارات الأمم التي دخلها الفتح الإسلامي، فقد تأثر العرب بفنون التصوير في تلك البلدان، لكنهم تمشياً مع تعاليم الإسلام وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، عدلوا عن تصوير الإنسان والحيوان إلى تصوير النبات .
وعلى مستوى فن العمارة تأثر المسلمون بأساليب شرقية وغربية عدة، ففي الأندلس راج فن الفسيفساء بتأثير تراث الإفرنج، واستطاع المسلمون أن يكيفوا فنون العمارة في كل البلدان التي عمها نفوذهم مع مفاهيم الإسلام عن طريق تقنيات أسلوبية ثابتة تحمل أبعاداً رمزية، مثل القبة والأقواس والمنارات والمحاريب والزخرفة الخطية والنباتية، والزخرفة الهندسية المعروفة بالمقرنصات التي استعاض المسلمون بها عن زينة التماثيل التي كانت سائدة في الهندسة المعمارية لدى حضارات الأمم التي فتحوا بلدانها، فبدلاً من التماثيل الممنوعة في الإسلام، اختاروا زينة المقرنصات التي أصبحت من العناصر المميزة للعمارة الإسلاميّة، والمقرنص هو شكل هندسي دقيق يشبه محراباً متناهياً في الصغير، ولا يُستعمل إلاّ متكاثراً متزاحماً بصفوف مدروسة التوزيع والتركيب، متجاورة متعالية، حتّى لَتبدو كلّ مجموعة من المقرنصات كأنّها بيوت النحل، وتعمل المقرنصات على اتصال الجدران بعضها بعضاً، وبالسقوف والقِباب والشرفات، ولا يتوقف النظر إليها عند حدّ، شأنها شأن الزخرفة الأخرى، وتغطي المقرنصات المجالات المقعّرة والتقاءَ السطوح الحادّة الأطراف في الأركان بين السقف والجدران وأسفل الشرفات في المآذن ورؤوس مداخل المنابر، وبكلمة واحدة تحتل كل المساحات التي كانت تقام فيها التماثيل، وبحسب أسلوب أهل كل بلد يتخذ البناء شكل المربع أو المستطيل أو الشكل الدائري، وتكون السقوف مخروطية أو مسطحة أو مقببة .
أما في مجال الفنون الحرفية كصناعة الأدوات والأواني والنسيج فمجال التأثير واضح وخصوصاً في البلدان التي نما فيها فن الخط واستطاع فنانوها أن يطرزوا الألبسة، ويتفننوا في صناعة السجاد، وينقشوا على الأواني خطوطاً بديعة، كما هو الحال في إيران والهند وأواسط آسيا، وقد كانت كسوة الكعبة إلى وقت قريب تجلب من مصر، ومن المؤكد أن الحرير الذي تصنع منه هو نسيج قبطي، وأن لفنون التطريز في مصر القديمة أثراً فيها، لا يزال طابعه ظاهراً في مزج اللونين الأسود وهو لون القماش والأصفر وهو لون خيوط الذهب التي تطرز بها .
كما ظهرت صناعة الزجاج المعشق كطراز إسلامي نشأ من تأثير الحضارة القديمة في بلاد الشام، وبلاد الأندلس حيث ازدهرت صناعة الزجاج، لكن تعشيق الزجاج بألوان الزينة النباتية والخطية هو فن إسلامي خالص، وقد برع فيه أهل الشام والمغرب، وازدهر بشكل كبير منذ أيام الدولة الفاطمية، فظهرت الزخرفة على سطح المرايا والقوارير بألوانها المطلية بالذهب وبالنقوش المتداخلة .
________
*(الخليج الثقافي)
شاهد أيضاً
“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني
(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …