*ترجمة: لطفية الدليمي
لا يزال ( أورهان باموق ) يعيش في مدينة إسطنبول التي ولد فيها عام 1952 لأسرة جنت ثروة من بناء السكك الحديدية في حقبة الجمهورية الأتاتوركية . انضم باموك إلى كلية روبرت العريقة حيث اعتاد أطفال الأقلية الإسطنبولية الثرية على تلقي تعليم علماني على النمط الغربي المعهود وأظهر منذ صباه شغفا ملحوظا بالفنون الجميلة ،لكن بعد أن التحق بالكلية لدراسة العمارة قرر الكتابة ، ويعد اليوم الكاتب التركي الأكثر مقروئية في تركيا . نشرت روايته الأولى ( جودت بك و أبناؤه ) عام 1982 ثم أعقبها ( المنزل الصامت) عام 1983 و ( القلعة البيضاء ) عام 1985 ثم ( الكتاب الأسود ) عام 1990 و ( الحياة الجديدة ) عام 1994 . حصل باموق على جائزة IMPAC الأدبية الدبلنية – المرموقة عام 2003 عن روايته ( اسمي أحمر ) المنشورة عام 1998 التي تحكي عن قصة غموض يلف جريمة قتل تروى بشخصيات متعددة و حصلت وقائعها في إسطنبول القرن السادس عشر ، و تستكشف الرواية الثيمة الأثيرة بين ثيمات باموك المنثورة في كتبه : التعقيدات المصاحبة للهوية في بلد ينتمي إلى الشرق والغرب في ذات الوقت والتنافس بين الأقارب و قيمة الجمال و الأصالة و القلق المصاحب للمؤثرات الثقافية ، ثم جاءت رواية ( ثلج ) المنشورة عام 2002 لتعالج موضوعة الراديكالية السياسية والدينية لتكون الرواية الأولى لـ( باموك ) في مواجهة التطرف في تركيا المعاصرة . يحكي كتاب ( إسطنبول : المذكرات و المدينة Istanbul :The Memories and the City ) المنشور عام 2003 عن صورة ثنائية لشخصية في طوري الطفولة و الشباب جنبا إلى جنب مع الخلفية الإسطنبولية التي عاشت هذه الشخصية وسطها .
أجري هذا الحوار مع باموق على جلستين متصلتين في لندن وتواصل لاحقا عبر المراسلات . تم الحوار الأول في الشهر الخامس من 2004 بالتزامن مع نشر الترجمة الإنكليزية لرواية ( ثلج ) . فقد هُيـئَت غرفة خاصة في سرداب فندق لندني مضاءة بأنابيب الفلورسنت و تعج بالضوضاء الصادرة عن أجهزة التكييف الخاصة بالفندق . حضر باموق اللقاء مرتديا جاكيتة قصيرة ضيقة من المخمل المضلع سوداء اللون فوق قميص خفيف الزرقة مع بنطلون فضفاض داكن اللون ،وكان تعليقه الأول على المكان ” يمكن جدا أن نموت بصمت هنا و لن يكون بمقدور أحد أن يجدنا ” . انزوينا في ركن هادئ على درجة معقولة من الأناقة في ذلك المكان و تحاورنا لثلاث ساعات متواصلة لم نتوقف خلالها إلا لتناول القهوة مع سندويتشات دجاج.عاد باموق إلى لندن عام 2005 لنشر كتابه ( إسطنبول : المذكرات والمدينة ) و استطعنا الالتقاء في ذات المكان من الفندق ثانية و تحدثنا لساعتين كاملتين .
الحوار
* كيف ترى مسألة إجراء حوارات معك؟
-: أشعر أحيانا بتوتر لأنني أجيب إجابات غبية عن أسئلة غير ذات هدف محدد ،حدث هذا سواء تحدثت التركية أو الانكليزية. أتكلم في العادة بتركية سيئة التركيب و بجمل ركيكة لذا صرت هدفا للهجوم في تركيا بسبب حواراتي أكثر بكثير مما أتعرض له من هجوم بسبب كتبي. المتحذلقون السياسيون المحبون للجدل و كتّاب الأعمدة هناك لا يقرؤون الروايات.
* لقيت كتبك استجابة طيبة في أوروبا و الولايات المتحدة . كيف تصف قبولك في تركيا ؟
– انتهت السنوات الاولى الطيبة الآن . عندما كنت أنشر كتبي الأولى كان الجيل السابق من الكتاب يتلاشى و يبهت ،لذا تم الاحتفاء بي كثيرا ككاتب شاب واعد .
* عندما تقول ” الجيل السابق من الكتاب ” ، من تقصد من هؤلاء؟
– أعني الكتاب الذين يعون مسؤوليتهم الاجتماعية الذين يدركون أن الأدب يعلي من شان المثل الاخلاقية و السياسية. أرى ان معظم الكتاب كانوا واقعيين مسطحين و لم يكونوا تجريبيين حالهم في هذا حال الكثير من الكتاب في البلدان الفقيرة الذين يبعثرون مواهبهم الثمينة في الكتابة عما يتصورون أنه يخدم أوطانهم فلم أشأ أن أكون مثلهم لأنني منذ صباي المبكر أعجبت بفوكنر وفيرجينيا وولف و بروست و لم يلق النموذج الواقعي – الاجتماعي الذي مثله شتاينبك و غوركي أي هوى في نفسي . بعد منتصف التسعينات عندما بدأت مبيعات كتبي تتجاوز ما حلم به أي كاتب تركي قبلي انفرط عقد شهر العسل بيني و بين الصحافة التركية و الطبقة الثقافية التركية أيضا .ومنذ ذلك الحين كان سيل النقد الجارف هو رد الفعل المتوقع على شهرتي و مبيعات كتبي المتصاعدة حتى قبل الاطلاع على قائمة المحتويات التي تضمها تلك الكتب . أنا الآن كاتب معروف على نطاق واسع بسبب تعليقاتي السياسية المستلة من حواراتي العالمية بعد ان تجري عليها الصحف الوطنية التركية تعديلات محددة و بلا خجل يذكر بقصد أن أبدو شخصية أكثر تطرفا و حمقا سياسيا من حقيقتي .
* إذاً يوجد رد فعل عدائي على شعبيتك؟
– قناعتي الحاسمة ان هذا الفعل العدائي هو عقاب لأرقام مبيعاتي الكبيرة و آرائي السياسية المعروفة لكنني لا أرغب في ترديد هذا القول دوما حتى لا أبدو في موقف المتحفز للدفاع عن نفسه و ربما أسأت قراءة المشهد كاملا .
* أين تكتب ؟
– لطالما كانت لدي قناعة راسخة أن المكان الذي تنام فيه أو الذي تتشارك فيه مع رفيق حياتك ينبغي أن يكون معزولا عن المكان الذي اعتدت الكتابة فيه لأن الانشغالات و التفاصيل المنزلية غالبا ما تكون قاتلة للخيال : إنها تقتل الشيطان المبدع الكامن في داخلك . الانشغالات المنزلية تدجن الكاتب و تجعل من عالم آخر يبتدعه الخيال مسألة تخفت حتى تذوي منطفئة بعد حين ، لذا كان لدي دوما مكان للكتابة خارج المنزل الذي أقيم فيه في العادة ، دعني أروي لك هذه الحكاية : حصل مرة أنني كنت أقضي فصلا دراسيا مع زوجتي السابقة في الولايات المتحدة التي كانت تحضر لنيل شهادة الدكتوراه PH.D في جامعة كولومبيا العريقة و كنا نعيش معا في واحدة من الشقق المخصصة للطلبة المتزوجين و لم يكن متاحا لي مكان منفصل للكتابة فكان علي أن أنام و آكل و أكتب في ذات المكان . كان كل شيء يذكرني بالتفاصيل المنزلية الى حد أقلقني و أفسد مزاجي الكتابي ،لذا ابتكرت حيلة صغيرة : كنت كل صباح أغادر الشقة و أودع زوجتي كمن يذهب الى العمل ثم بعد عدة جولات مشيا على الأقدام أعود الى الشقة و كأني أدخل مكتبي المعد للكتابة . عثرت قبل عشر سنوات على شقة جميلة تطل على البوسفور و تمنح المرء إطلالة رائعة على مدينة اسطنبول القديمة وربما كان لها أفضل إطلالة على اسطنبول بأكملها و هي تبعد نحو خمس و عشرين دقيقة مشيا على الاقدام عن منزلي حيث أقيم و تمتلئ بالكتب و تطل منضدتي الكتابية فيها على أفق اسطنبول الساحر . أمضي في المعدل عشر ساعات يوميا في الكتابة في هذه الشقة .
*عشر ساعات في اليوم ؟!!!
– نعم ، فأنا مثابر للغاية و أحب عملي جدا . يقول الناس عني بأني جامح الطموح و ربما كان شيء من الحقيقة في هذا القول ،لكنني أعشق ما أفعل ،أبتهج كثيرا بالجلوس إلى منضدتي و الشروع في الكتابة مثلما يبتهج طفل بلعبته إنه عمل جاد بالأساس لكنه متعة وألعاب مسلية أيضا .
*يصف السارد في روايتك ( ثلج ) نفسه كموظف يبتدئ عمله في ذات الساعة كل يوم . هل تملك ذات الانضباط و الصرامة في الكتابة ؟
– كنت أشير في هذه النقطة التي ذكرتها إلى الطبيعة الصارمة والمنضبطة التي يملكها الروائي التي تشبه طبيعة الموظفين المسلكيين شديدي الانضباط في مقابل الطبيعة الرخوة لدى الشاعرالتي لها تقاليد تبجيل واسعة في تركيا ، أن تصبح شاعرا في تركيا يعني انك ستصبح شخصا معروفا و محترما لأن معظم السلاطين العثمانيين و رجالات الدولة معهم كانوا شعراء و لكن ليس بالطريقة التي نرى عليها الشعراء اليوم . ظل السعي لأن تكون شاعرا في تركيا و لمئات من السنوات وسيلة لإثبات كونك مثقفا و كان هؤلاء الشعراء يجمعون شعرهم في مخطوطاتهم تدعى ( دواوين ) ،وقد أنتج قرابة نصف رجالات الامبراطورية العثمانية دواوينهم الخاصة بهم . كانت تلك طريقة غاية في التعقيد و مهذبة في الكتابة عن الأشياء بكثير من القواعد و الشعائر و تعج بالتقليدية و التكرار لكن الحالة تغيرت بعد أن تغلغلت القيم الغربية في المجتمع التركي حيث تمازجت هذه التركة مع الفكرة الحديثة و الرومانسية التي ترى في الشاعر شخصا يحترق في طلب الحقيقة و هو ما جلب وزنا إضافيا إلى ( بريستيج ) الشاعر.على نقيض هذه الصورة عن الشاعر فإن الروائي هو أصلا و بطريقة أساسية جدا شخص يقطع المسافات الشاسعة بصبر وتأن ٍ مثل نملة تدب دبيبا على الارض ،لذا فهو يعبر عنـّا ليس عبر رؤيته الرومانتيكية و شيطانه الشعري بل عبر عمله الصبور فحسب .
*..هل ترى أن الكتابة النثرية أصبحت أكثر يسرا و طواعية لك مع مرور الوقت ؟
– للأسف كلا ، أشعر أحيانا بأنني ينبغي أن أحشر الشخصيات في مواضع لا أعرف كيف أحشرها فيها . قد أكون امتلكت ثقة أعلى بالنفس مع الوقت و لكن هذا الشعور قد يصيبك بغاية الخذلان أحيانا لأنك عندما تكتب مع ثقة جارفة بالنفس فإنك حينها لا تجرب شيئا جديدا بل تكتب كل ما يرد على رأس قلمك و حسب . منذ ثلاثين سنة و أنا أكتب الرواية و أظن انني قد تحسنت بقدر ما و مع ذلك قد أنتهي احيانا نهايات مريرة حيث أعيا عن إيجاد مكان مناسب لأضع شخصياتي . تذكر أن هذا يحصل بعد ثلاثين سنة من خبرة الكتابة شبه اليومية .إن تقسيم الكتاب إلى فصول مسألة في غاية الأهمية لطريقتي في الكتابة ،عندما أشرع في كتابة رواية و أنا أعرف مقدما القصة الكاملة -و يحصل هذا الأمر غالبا – فإنني أقسم الكتاب الى فصول و أفكر فيما عسى أن يحصل من تفاصيل في كل فصل و ليس من الضروري أن أبدأ بكتابة الفصل الأول ثم تليه الفصول الأخرى حسب الترتيب و إذا ما حدث و تعثرت في أحد الفصول – و هو ليس بالأمر المحزن لي أبدا – فإنني أباشر العمل بكل ما يبدد حيرتي . يحصل أحيانا ان أبدأ بكتابة الفصول الخمسة الأولى من كتاب ما و إذا وجدت نفسي غير مستمتع إلى حد كافٍ فقد أقفز إلى الفصل الخامس عشر و أبدأ الكتابة من هناك.
*هل تعني أنك تقوم بمسح شامل لتضاريس كتابك كاملا منذ البداية ؟
– نعم . خذ مثالا روايتي ( اسمي أحمر ) التي تضم عددا من الشخصيات و قد أفردت لكل شخصية عددا من الفصول . عندما كنت أكتب الرواية أردت التماهي معها بكوني واحدا من الشخصيات فيها، لذا عندما أنهيت كتابة الفصول الخاصة بـ ( شيكوري ) و أظنه الفصل السابع انتقلت إلى الفصل الحادي عشر و هو فصل يعود للشخصية ذاتها أيضا .أحببت أن أكون ( شيكوري ) في الرواية . إن الانتقال من الشخصيات الروائية الى ما أنت عليه في حقيقتك، قد يكون تجربة قاسية و باعثة على الاكتئاب المرير ، لكن ثمة استثناء واحد في كل كتاب أكتبه : الخاتمة ، و التي أكتبها دوما في نهاية العمل و ذاك أمر محسوم تماما
* هل هناك من تقرأ عليه ما تكتب بشكل دائم ؟
– أقرأ أعمالي دائما لمن يتشارك العيش معي و أكون ممتنا لو قال لي : اقرأ لي المزيد او اقرأ لي ما كتبت اليوم ، فهذا يمنحني شحنة ودفعة إضافية للعمل، يحصل أحيانا ان يقول لي من أقرأ له : آسف لن أشتري كتابا من هذا النوع، و هو أمر أراه محمودا ايضا . أحب دائما ذكر الكاتب ( توماس مان ) كاتبي الأثير الذي اعتاد جمع أفراد عائلته كلهم و قراءة العمل كاملا لهم . أحب هذا التقليد في القراءة .
* عندما كنت شابا أردت ان تكون رساما . متى فسح حبك للرسم الطريق أمام حبك للكتابة ؟
– حصل هذا التحول عندما كنت في الثانية و العشرين . عندما كنت طفلا في السابعة اردت ان أكون رساما ووافقت عائلتي على فكرتي هذه وظننت أنني سأكون رساما عالميا ثم أدركت ان ثمة خطأ ما في المسألة برمتها فتوقفت عن الرسم و شرعت فورا بكتابة روايتي الاولى .
* هلا أسهبت قليلا في بيان سبب التحول هذا ؟
– لا أستطيع الحديث عن أية أسباب محددة وراء تحولي من الرسم الى الكتابة ،نشرت حديثا كتابا عن اسطنبول نصفه هو سيرتي الذاتية حتى لحظة تحولي الى عالم الكتابة و نصفه الآخر مقالة عن اسطنبول أو بشكل أدق رؤيتي لاسطنبول و هي خليط من التفكير حول الصور و تضاريس المكان و الكيمياء الإسطنبولية، تقول العبارة الختامية في الكتاب ” لا أريد أن أكون فنانا ،قلت لنفسي، سأكون كاتبا ” و لكن لم أفهم يوما سبب تحولي أبدا فربما قراءة الكتاب كاملا توضح شيئا من الأسباب .
* هل كانت عائلتك فرحة بهذه الانتقالة من الرسم إلى الكتابة ؟
– كانت والدتي منزعجة جدا،أما والدي فقد كان متفهما تماما ربما لأنه أراد في شبابه أن يكون شاعرا و قد ترجم فعلا الشاعر الفرنسي ( فاليري ) الى التركية لكنه توقف عن إبداء تفهمه بعدما سخرت منه حلقات الطبقة العليا التي ينتمي اليها .
* كيف يمكن قبول فكرة أن عائلتك ارتضت بك رساما لا روائيا ؟
– لأنهم لم يظنوا أنني سأكون رساما طوال الزمن ، كانت مهنة الهندسة المدنية هي الاتجاه المهني السائد في عائلتنا، فقد كان جدي مهندسا مدنيا صنع ثروات كبيرة من بناء السكك الحديدية لكن أبي و أعمامي أضاعوا تلك الثروة رغم انهم تخرجوا من المدرسة الهندسية ذاتها التي تخرج منها جدي : جامعة اسطنبول التقنية ، كان مقدرا لي ان ألتحق بنفس الجامعة و بالنظر لميولي الفنية البارزة فقد التحقت بقسم العمارة في الجامعة و كان هذا حلاً يرضي جميع الأطراف في عائلتي ثم حصل في منتصف برنامجي الدراسي للهندسة المعمارية ان أهملت الرسم و بدأت بكتابة الرواية .
* هل كنت تحتفظ بفكرة روايتك الاولى في ذهنك عندما هجرت الرسم الى الكتابة ؟
– بقدر ما أتذكر فانني أردت ان اكون روائيا حتى قبل ان أعرف تماما ما الذي علي ان اكتب . كان لدي ثلاث محاولات فاشلة للكتابة في بداية محاولاتي الكتابية و ما زلت احتفظ بدفاتر ملاحظات تخصها و لكن بعد ستة اشهر تقريبا بدأتُ مشروعا كبيرا تجسد في خاتمته بنشر روايتي ( جودت بك و أبناؤه ) والتي هي ملحمة عائلية مثل العمل الملحمي ( عائلة بودنبروك ) لـ ( توماس مان ) عندما نشرت روايتي كنت في حوالي الثلاثين من العمر و كانت كتابتي قد اصبحت اكثر ميلا الى التجريبية و الأنماط الكتابية الحديثة .
* عندما تقول انك أردت ان تكون اكثر حداثة و ميلا للتجريب في الانماط الكتابية المعاصرة هل كانت هناك أسماء محددة أمامك ؟
– في ذلك الوقت لم تعد أسماء الكتاب العظام لدي هي تولستوي و دوستويفسكي و ستاندال وتوماس مان بل صار ابطالي فيرجينيا وولف و وليم فولكنر و قد أضفت لهما لاحقا بروست و نابوكوف .
* نقرأ في العبارة الافتتاحية من روايتك ( الحياة الجديدة ) :” قرأت كتابا يوما ما و بعدها تغيرت حياتي كلها ” . هل كان لكتاب ما هذا التاثير الطاغي عليك ؟
– ( الصخب و العنف ) لفوكنر كان لها تأثير حاسم للغاية عليّ عندما كنت في الحادية والعشرين او الثانية و العشرين من العمر،ابتعت نسخة من طبعة بنجوين للرواية التي كانت صعبة القراءة لي و بخاصة مع فقر لغتي الإنكليزية ، لكن كان ثمة ترجمة رائعة للرواية من الإنكليزية الى التركية فكان علي ان اضع الكتابين على الطاولة و أقرأ مقطعا من كتاب وترجمته من الكتاب المقابل ، و قد ترك الكتاب علامة مهمة في نفسي و بدأت بعده أكتب بصيغة الفعل المضارع البسيط ، أشعر معظم الأحيان شعورا رائعا عندما أشخص الحدث بنفسي بدل الحديث عنه بصيغة الشخص الغائب.
* قلت في سياق حديثنا ان روايتك الأولى استغرقت سنوات قبل أن تنشر ؟
– في عشرينات عمري لم تكن لدي أية صداقات أدبية و لم أكن أنتمي لأية مجموعة أدبية في اسطنبول لذا كان السبيل الأوحد لطبع روايتي هو تقديمها إلى مسابقة أدبية للنصوص غير المنشورة في تركيا . و قد فعلت و نلت الجائزة فعلا و نشرت روايتي عن دار نشر كبرى مرموقة .
* كيف تبدأ بملاعبة الأفكار و اختيار شكل رواياتك؟ هل تبدأ بصورة ما ؟ بجملة افتتاحية ما؟
– ليس من صيغة ثابتة و قد قررت منذ البدء أن لا أكتب روايتين في ذات السياق ،احاول أن أغير كل شيء في كل رواية اكتبها ،انها متعة و تحدٍ بذات الوقت ان تتلاعب في الشكل والأسلوب و اللغة و أمزجة الشخصيات و أن تفكر في كل كتاب تكتبه بشكل مختلف عما سبق .قد تراودني موضوعة الكتاب من مصادر مختلفة فمثلا في روايتي “اسمي أحمر” أردت الكتابة عن طموحي في أن اكون رساما فبدأت بداية برسام اوحد ثم أبدلت الموضوع ليكون مجموعة رسامين يعملون في ( اتيليه ) : هنا تغيرت وجهة النظر الاولية لان لديك مجموعة رسامين يتحدثون في ما بينهم . بعض الموضوعات هي من تفرض على الكاتب اختيار ستراتيجيات أو اكتشافات شكلية في أساليب السرد الروائي ،ترى مثلا شيئا محددا او تقرأ شيئا ما او ترى فيلما أو تقرأ مقالة صحفية ثم تذهب للتفكير فيما فعلت و تقول : حسنا سأبدأ من هذه النقطة ثم تبدأ في هيكلة الرواية و تعمل على إدامة تدفقها ، تكتب و تخاطب نفسك : رائع ،لم يفعل أحد هذا من قبل وهناك ملاحظة أخيرة : أفكر بموضوعات محددة لسنوات و لدي أفكار كثيرة أخبرتها لأصدقائي المقربين و أحتفظ على الدوام بأكوام من دفاتر ملاحظات تصلح للكثير من الروايات التي يمكن ان أكتبها في السنوات القادمة .
* يصنف النقاد رواياتك غالبا بانها ( مابعد حداثية Postmodern) مع أنك تستمد الكثير من ألاعيبك السردية من مصادر تقليدية فأنت لك اقتباسات كثيرة عن ( ألف ليلة و ليلة) وكلاسيكيات أخرى من النصوص الشرقية . كيف تعلق على هذه المسألة ؟
– بدأت الحكاية مع روايتي ( الكتاب الأسود ) رغم اني قرأت بورخس و كالفينو في وقت أبكر من كتابتي لهذه الرواية . ذهبت أنا و زوجتي عام 1985 الى الولايات المتحدة وهناك عاينت عن قرب الثراء الفائق للثقافة الامريكية و قد شعرت بالرهبة و انا تركي قادم من الشرق الاوسط و أبغي أن اثبت شخصيتي كروائي ، لذا تراجعت و قررت ان أعيد اكتشاف جذوري و أدركت أنه ينبغي لجيلنا ان يسعى لخلق أدب وطني حديث، بورخس و كالفينو هما من حرراني، أجد مفهوم الثقافة الإسلامية التقليدية رجعيا تماما و مسيّسا بطريقة واضحة و يستخدمه المحافظون بطريقة عتيقة و غبية حدّ إدراكي منذ البدء أنه لن يكون بوسعي استخدامه في عملي الروائي ، لكن تجربتي الامريكية جعلت الامر واضحا لي بأنني أستطيع العودة إلى ذلك التراث و لكن في إطار عقلي يحتكم الى رؤية كالفينووية او بورخسية و هنا بدأت بعمل تمييزات صارمة بين المفهومين الديني و الأدبي عن الثقافة الاسلامية، لدى تركيا تراث هائل من الأدب المعقد التركيب والمقترن بالأدب الزخرفي التزييني( Ornamental Literature ) و لكنّ كتابنا المحافظين اجتماعيا أفرغوا قيمة هذا التراث من محتواه الاستكشافي،هناك الكثير من الرمزيات التي تعيد نفسها في التقاليد الحكائية الشفاهية الصينية و الهندية والفارسية و قد قررت استخدامها في عملي عن اسطنبول المعاصرة . انها تجربة ممتعة أن نضع كل شيء معا مثل لوحة كولاج دادائية لكن يبقى التأثير الطاغي للثقافة الامريكية مع رغبتي في أن اكون كاتبا تجريبيا هو المصدر الملهم لأعمالي .
*هل تعتقد ان المواجهة المستمرة بين الدوافع الشرقية و الغربية في تركيا سيتم تسويتها يوما ما؟
– أنا متفائل و أرى أنه ينبغي لتركيا أن لا تقلق لامتلاكها روحين تعودان لثقافتين مختلفتين ،الشيزوفرينيا الثقافية هذه مفيدة و تدفعك لتكون أكثر ذكاء ، فقد يحصل أن تفقد صلتك بالواقع – و هذا ليس سيئا تماما فأنا كاتب رواية في النهاية – و لكن لا ينبغي لك أن تقلق أبدا بشأن هذه الشيزوفرينيا الثقافية لأنك إذا ما قلقت كثيرا مخافة أن تنجح احدى الثقافتين في قتل الأخرى فستنتهي بثقافة أحادية كسيحة وأرى هذا أسوأ ما يمكن ان يحدث .هذه هي نظريتي التي أسعى دوما للتبشير بها في أوساط السياسة التركية و الساسة الأتراك الذين يريدون لتركيا ان تنقاد بروح واحدة صارمة و أنا أجنح دوما لنقد هذه النظرة الاحادية.
_________
* روائية ومترجمة من العراق/ المدى