أخناتون: مجنون، سيّئ، أم متألّق الذكاء؟


*ترجمة:ابتسام عبد الله

كان أباً لـ توت عنخ آمون، تزوج نفرتيتي، وكان أحد أبرز المفكرين اللامعين في عصره، فلماذا إذاً يتم تجاهله كرجل مجنون غالباً؟

على مسافة 200 ميل جنوب القاهرة، في قلب وسط مصر، يحتل موقع العمارنة، مساحة كبيرة من الصحراء، على مقربة من نهر النيل، وبالنسبة للعين الغريبة، فان قطعة الأرض القاحلة هذه لا تعني شيئاً، أرض متربة طولها سبعة أميال وعرضها ثلاثة، تنتشر فيها الأجمات، ولكن هذه الأرض قبل 33 قرناً ماضية، كانت موطناً لعشرات الآلاف من المصريين القدامى، جلبوا إليها حسب إرادة شخص واحد: الفرعون أخناتون.
ثائر، طاغية، نبي للدين الجديد الموّحد، أخناتون، وقد وصف بأنه الفرد الأول القائم بذاته، والمستقل، في التاريخ وامتد تأثيره على مصر القديمة وعاداتها ومعتقداتها، قرناً من الزمن، ولكن الأجيال التي جاءت بعد وفاته في عام 133 قبل المسيح، ُوصف بالكافر والهرطة، وفي قائمة أسماء الملوك، حذف اسمه.
وهكذا يعتبر أخناتون، الشخص الأكثر سحراً وإثارة للجدل في تاريخ مصر، وكانت زوجته نفرتيتي التي تعرف بـ موناليزا الآثار القديمة والتي وجدت رسوماتها، في الأعمال المصرية والتماثيل التي تم العثور عليها في تل العمارنة، والتي نقلت في متحف برلين، وكان أخناتون أيضاً أباً لتوت عنج آمون، أشهر الفراعنة على الإطلاق.
ولم يكن مفروضاً أن يصبح أخناتون فرعوناً، فابن امنحوتب الثالث، الذي سيطر على النصف الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، كان يحكم بلاطاً مرفهاً وفخماً، ولكن شقيقه الأكبر، الأمير توتموس، توفي فجأة، ثم توفي والده في عام 1353 قبل الميلاد، وهكذا توفي امينحوتب العرش .وسرعان ما بدأ تمرده يعلن عن نفسه، فأمر بإقامة مبان فخمة للمركز الديني التاريخي في الكرنك.
وبدلاً من تقرير آمون، الإله المرتبط بذلك الموقع، فإن معابده وجّهت شرقاً، للتعبير عن شكل جديد للإله، الشمس، الذي يعرف رسمياً، “الحي” راحورس للأفق، والذي يبهج الأفق بضيائه الذي في قرص الشمس، كما ان الملك غيّر اسمه من أمينهوتيب (ومعناه-الراضي) إلى أخناتون.
وتم نحت عدد من التماثيل الحجرية للملك في المعابد بالكرنك، مرتبطة بأعمدة في صف طويل في القاعات الكبيرة المفتوحة، وأحد تلك التماثيل يمكن مشاهدته في المتحف المصري بالقاهرة، وهو تمثال لا مثيل له في التاريخ المصري القديم.
ويبدو وجه أخناتون ممتداً، مع وجنتين بارزتين وأنف طويل، وذقن ذي نهاية مستدقة. وشفتيه المكتنزتين بشكل غير اعتيادي- أشبه بشفتي امرأة.
وللعين التي تنظر إلى التمثال اليوم، فإن النحات كان تجريبياً وخيالياً، فهل التمثال حقاً يمثل حاكماً كان يعاني من الأمراض، أم انه يمثل رؤية جديدة للحاكم؟
وتقول آنا ستيفنز الخبيرة في “المصريات” ” المصريون القدامى، استأصلوا أخناتون في تاريخهم، ولكن التاريخ الحديث كان اكثر رحمة به: “ربما لأننا نحترم الفردية، وبطبيعة الحال لا نتأثر بشكل مباشر من أفعاله”.
ويقول باري كيمب، “من غير وجود أساس لفحص تام، فان توجيه صفة- الجنون- أمر يتوجب إغفاله وتجنبه، وكيمب هو بروفيسور في “المصريات” بجامعة كيمبردج، ومؤلف كتاب “مدينة أخناتون ونفرتيتي”.
ثم يضيف: “من الواضح أن أخناتون لم يكن يمتلك عقلاً أصيلاً، وقد طور رؤية عن كيفية تقييم وتبجيل الله، وكون رؤية خاصة به، “كانت رؤية أخناتون متطرفة: عبادة إله واحد، الحرم المساوي الأوحد ودمر الهيكل الديني المكرس لكافة الآلهة في العام الخامس لحكمه، في الوقت الذي غيّر فيه اسمه قرر أخناتون بناء عاصمة ملكية جديدة –في مكان ما بعيد عن دلائل لديانات قائمة.وكان المكان الذي اختاره ،في ما يسمى اليوم عمارنة، ويدعى آنذاك أخناتون أو بمعنى أفق أتين.
وكان البناء سريعاً، وبعد عامين، سكنت العائلة المالكة في شمال المدينة، وفي قصر يرتبط ببقية المدينة، عبر طريق طويل ملكي، وكان أخناتون يقطع ذلك الطريق كل يوم بعربته مراقباً تطوّر المدينة، مؤكداً على إلهه الجديد.
وتقول ستيفينز، “كانت بداية جديدة، انه كان مشروع طرح ديانة جديدة، في أرض عذراء- وهذا ما يقوله لنا أخناتون، على الواحة الحجرية، في تل العمارنة، وتضيف ستيفينز (وهي حالياً المديرة المساعدة لمشروع تل العمارنة)، الوسيلة الوحيدة لإظهار محاولة تقديم أخناتون، هي التأكيد على محاولته قطع صلته بالماضي، وتقديم شكل جديد من الأسلوب المعماري.
والمعابد المصرية كانت أمراً مغلقاً، فما ان يدخل الشخص المعبد الداخلي، فإن الأرض تبدأ بالارتفاع، ويهبط السقف، وكانت الإضاءة مقيدة بعدد قليل من النوافذ الصغيرة والقناديل، أما معابد أخناتون، فكانت قاعات مفتوحة، ومزارات بلا أسقف، متخلياً عن القدسية السابقة، بإخفاء الضريح المقدس”.
وعبر عمارنة، زينت المباني برسومات وأعمال فنية تمثل “الشمس” قرص بسيط، يرسل أشعة تتراكم في أيدي الإنسان، إشارة إلى عطايا الشمس، وكان أكبر المعابد، “معبد أتين الكبير”، الذي شيد من أكثر من 1،700 حجارة”.
ولم يكن تقديم الشمس بتلك الرؤية الفنية هي الغريبة فقط، فعبر الأعوام، طوع المعماريون، الحجر الكلسي لتقديم مشاهد العائلة المالكة وهي في مظاهر أسرية- قبل ظهور الصور المسيحية للعائلة المقدسة، وهناك نماذج منها في متحف برلين، ويظهر أخناتون يؤرجح إحدى بناته وكأنه يحاول تقبيلها، وتقف في مواجهته نفرتيتي، وهي تحتضن ابنة ثانية، تشير إلى شقيقتها، وهناك طفلة ثالثة ماتزال صغيرة جداً وهي تلعب بالثعبان المعدني، المعلق بإطار يحيط بوشاح والدتها.
ومقارنة مع الفن المصري الحديث، نجد أن تلك الرسومات كانت متقدمة في عصرها وأصيلة ومليئة بالحياة، والأسرة المالكة تبدو سعيدة.
فلماذا حاول أخناتون تشجيع فن جديد مشع بالحياة، وغير جامد، بالتأكيد، إنه حاول إشاعة تقاليده- وذلك المشهد العائلي يعبر عن دوره ودور زوجته، كوسيطين بين الآلهة الشمس والناس.
وربما لهذا السبب كانت قصوره في العمارنة هها شرفات تطل على الخارج، وربما أنها كانت تستخدم لتحية الشعب، كما هو الأمر حالياً مع شرفة قصر باكينكهام في لندن.
والدراسات الحديثة في العمارنة، تقول ان طقس عبادة الشمس، لم يلق النجاح كما كان أخناتون يتأمل، وقد أشرفت آنا ستيفينز على حفر مقابل العمال الذين عملوا في تشييد قصور أخناتون والمعابد، وكانت قبوراً ضحلة.
وقالت ستيفينز، “إن الحياة كانت للغالبية من الشعب صعبة، ويقول التاريخ ان غالبية العمال كانوا يموتون في منتصف الثلاثينات من أعمارهم”.
وشيء آخر أثار الاهتمام وهو أن المقابر تحوي أيضاً تعاويذ وتمائم، تحمي الصغار، كانت تعبد منذ قرون عدة، دون وجود أثر يرمز إلى الشمس في المقابر، ولا أي شيء يرمز إلى أخناتون، أي أن الحياة بالنسبة لأولئك كانت تسير كالسابق، وكأن أخناتون لم يفعل شيئاً.
وقد توفي أخناتون بعد أن حكم 16 عاماً، وبعد أعوام اصبح ابنه توت عنخ آمون ملكاً في عام 1332 قبل الميلاد، وانتصرت قوى المحافظة.
وأصدر توت عنخ آمون مرسوماً يبدي أسفه فيه على تدمير معابد الدولة، وبدأت الأدغال تنمو فيها، إن الآلهة تتجاهل هذه الأرض”.
وهكذا تم هجر المدينة (التي كانت تضم 50،000 فرد). وعادت المحاكم إلى ممفيس، العاصمة التقليدية، واستعيدت التقاليد الدينية القديمة، وأزيل اسم أخناتون من التاريخ.
وبالنسبة للمصريين القدامى، كان أخناتون مجنوناً، سوداوياً، حالماً، ولكنه كان مصلحاً شجاعا، الذي حاول بمفرده تغيير التقاليد المصرية وإحياء أخرى حديثة.
ويقول باري كيمب، “لقد أعطت الشمس القليل للناس، أولئك الذين يريدون طمأنينة آلهة يقتربون منها كلما أرادوا، وحتى إن كانوا في بيوتهم”.
_________
عن الغارديان/المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *