*إيزابيللا كاميرا
في جميع لغات العالم هناك تعبير يشير إلى كيفية انتقال المعلومات من شخص إلى آخر. عبارة: «يقولون إن». ولكن من الذي يقول؟ ولماذا يقول ذلك؟ ولماذا إذا قال شخص شيئاً، نرددِّه مع الآخرين مرّات عديدة حتى نصدِّقه نحن أيضاً؟
وهناك العديد من الأمثلة التي يمكن أن تُقال، كما أن هناك أعمالاً أدبية عديدة تتحدث عن قوة الشائعات والقيل والقال والنميمة، والتي بالإضافة إلى أنها تتلاعب بالحقيقة، تؤدّي إلى الانحراف بالمسار الطبيعي للحياة.
كان جيلنا، الذي تغذّى على أكاذيب القنوات التليفزيونية من جميع أنحاء العالم، هو أكثر من اعتاد على القيل والقال الذي يتحول إلى تاريخ، أو التاريخ الذي يتكوَّن من القيل والقال. ونحن في نهاية المطاف نصدِّق ما يقال لنا متكرِّراً لمرات عديدة، حتى لا نستطيع أن نميِّز بين الحقيقة والخيال. لأنه كما تنشد إحدى شخصيات أوبرا روسيني الشهيرة «حلاق إشبيلية»: «الشائعة كالنسيم، هَبّة ريح عليلة تتسلَّل رقيقة، خفيفة، وتبدأ بالهمس».
من الأمثلة التي يمكن أن تبرهن على النتائج المميتة للشائعات القصة الحزينة لإحدى أبرع المغنيات الإيطاليات في السنوات الأخيرة وهي ميا مارتيني، وهي امرأة شجاعة جريئة تبدو في الظاهر في منتهى القوة، ولكنها وحيدة بدرجة خطيرة، أو لنقل -بالأحرى- «معزولة». وقبل بضع سنوات انطلقت شائعة أنها «نحس» على أي مكان تذهب إليه، فأحجم منظِّمو الحفلات عن طلبها اتِّقاءً لفشل حفلاتهم. كان الجميع يهمسون عندما كانوا يرونها، وربما أصدر البعض منهم أيضاً إيماءات استهزاء بها، حتى جاء يوم قالت فيه ميا مارتيني: كفى!، وانتحرت. لم تستطع أن تقاوم هذه الشائعات. وجميع من هزئوا منها حتى، ولو بصوت خفيض، فهموا متأخراً أكثر من اللازم عبثية هذا السلوك. اليوم أصبحت ميا مارتيني أيقونة الغناء الجميل، وأصبحنا نسمع صوتها كثيراً في الإذاعة والتليفزيون. لم يعد أحد يشعر بالخوف وهو يستمع إلى صوتها، أو يراها في الأفلام القديمة، ذلك أنها ببساطة لم يكن لها دخل بسوء الطالع، وإنما كانت هي نفسها ضحيّة للشائعات الكاذبة التي دفعتها إلى القبر.
فإذا كانت هذه الحالة مأساوية فإنني أودّ الحديث عن حالة أخرى إيطالية، مضحكة هزلية، ترتكن هي أيضاً على الشائعات والتي إذا تَمَّ توجيهها بمهارة تستطيع أن تجعل ملايين من الأشخاص يصدِّقون شيئاً بدلاً من شيء آخر بفعل التكرار. إنها حكاية رجل فقير نشأ من العدم، عمل مقاولاً صغيراً، ثم أصبح بين عشية وضحاها واحداً من أكثر المليارديرات ثراء، ليس في إيطاليا وحدها ولكن على مستوى العالم، والذي -وفقاً للشائعات- صنع ثروته كلها بنفسه وبمنتهى الأمانة. ولكنها لم تكن سوى شائعات، فرغم أنه فعل كل شيء وحده، إلا أنه بالتأكيد لم يفعله بأمانة، كما أكَّدت المحكمة. ثم إن هذا الشخص كان قد بدأ يقول إنه لو دخل عالم السياسة في إيطاليا فإنه سوف يقضي على البطالة، ويوفِّر الملايين من فرص العمل. كانت مجرد شائعات خدعت الناس فصوَّتوا له، فاقتحم عالم السياسة من أوسع الأبواب. ولكن من خلال قنوات التليفزيون التي يملكها عاد ليحكي للناس كيف أنه رجل «شاطر» ولكن القضاة يلاحقونه رغم أنه كان أميناً شريفاً، ولم يرتكب أي عمل مشين.. ولكنها الشائعات الشريرة تطارده في كل مكان، وهو بريء، بل إنه قدّيس يتلقّى بركة الرب. بل إن البعض قارنه بالقدّيسين الذين لم يفهمهم أحد فطاردتهم الشائعات الشريرة، وغنّى له أحد المطربين أغنية كانت تتردَّد في جنبات الحزب تقول «لحسن الحظ أن سيلفيو موجود». في تلك الأثناء ظلت الشائعات ضده تزداد وتزداد معها الأصوات التي ينالها ممن يرونه «شهيداً». لكن، هل فكَّر أحد ممن صوَّتوا له في أن يتحرّى بنفسه أن وعده بملايين فرص العمل كان مُجَرَّد شائعة؟
_____
*مجلة “الدوحة”