الكتابة وقواعد الشعر


*عبد الرزاق هيضراني

( ثقافات )


الكتابة والذاكرة والاتجاه نحو القاعدة
في محاورة شفاهية بين أبي حاتم السجستاني (240 هـ) وأستاذه الأصمعي، نلمس أهمية الكتابة ودورها التاريخي، في تلك المحاورة كان الأصمعي يفضل النابغة الذبياني على سائر شعراء الجاهلية، فلما سأله أبو حاتم: من أول الفحول؟ قال: النابغة. وقد كان جوابه شفهيا لكن لما رأى الأصمعي حاتما يكتب غير كلامه، إذ فكر ثم قال: بل أولهم كلهم في الجودة امرؤ القيس. من هنا يأتي السؤال هل لهذا الإضراب من دلالة في الثقافة العربية آنذاك؟.إن الجواب الأول الشفوي كان انطباعا فقط لا يلام عليه لأنه كان بعيدا عن أعين [المؤسسة الثقافية]، المكونة من علماء الأدب واللغة (إذ كان الأصمعي يعرفهم تمام المعرفة ويطلق عليهم: العلماء بالشعر) بمعنى أنه انتقل إلى الجواب الثاني عندما أحس بتوسع رقعة متلقي ذلك الحكم، وأراد أن يكون منسجما مع الحكم السائد بأفضلية امرئ القيس.
إن هذه الواقعة وغيرها تختزل المعاني ولا تفرط في الكلمات، وتتمتع بقدرة توصيفية عالية، فكان ذلك مدعاة لنشأة المصطلح النقدي في الثقافة الأدبية. فمن ذلك كذلك استفسار أبو حاتم أستاذه: ما معنى الفحل. قال: له مزية على غيره كمزية الفحل على الحقاق. إن هذا التحول إلى تأسيس المصطلحات تحول في النسق الثقافي؛ من ثقافة قائمة على البداهة، إلى ثقافة قائمة على النظر؛ بمعنى الإمعان في التفكير.
وقبل الحديث عن قواعد الشعر التي تعد مرحلة لبداية التنظير الشعري فإنه وجبت الإشارة هنا إلى نقطة أساسية تتمثل في تبلور النظرية داخل الثقافة العربية انطلاقا من مبدأي: التجاوز تارة والتطوير للمفاهيم والمنظورات القديمة تارة أخرى. فهذا ابن قتيبة مثلا يسجل تمرده على النظرية اللغوية في النص، فقد اختار ابن قتيبة (276 هـ) منهج التوصيف للخروج من مشكلة رؤية الشعر رؤية لغوية صرفة. ويتمثل بديله النظري في:
الإخبار والتوثيق: أي جمع المواد التي تساعد في التعريف بالشاعر.
الاختيار والتصنيف الطبقي القائم على مقياس الذوق الشخصي وأحكام القيمة.
تعطيل المقياس الزمني للشعرية: «ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره… ولقد تعامل ابن قتيبة في تنظيراته بنوع من المرونة المطلوبة.(إني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائلة ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله، ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوما دون قوم) .
لقد أصبحنا نتحدث عن تأسيس لمعرفة أدت إلى مرحلة وضع القواعد، ومن هنا اتجه النظر إلى الشعرية، إلى الوقوف عند: الأصول أي القواعد التي ستشكل ضربا من المتعة العقلية لأن الأصول (القواعد) هي الجانب المادي التطبيقي من المعرفة النظرية.
وإذ نتحدث عن بداية التنظير داخل الثقافة العربية المبكرة نسجل أهمية القواعد التي أكدت أن الأدب قد عرف مرحلة متقدمة تجمع بين ما هو نظري وما هو تطبيقي. ويعد في هذا الإطار كتاب “قواعد الشعر” لصاحبه أحمد بن ثعلب (291 هـ) بداية التنظير الأدبي، فقواعده الموضوعة كانت نتيجة مراس ودربة لغوية ونقدية. يتحدث ثعلب عن نفسه فيقول: 
«حذقت العربية، وحفظت كتب الفراء كلها، حتى لم يشذ عني حرف منها، ولي خمس وعشرون سنة، وكنت أعنى بالنحو، أكثر من عنايتي بغيره، فلما أتقنته، أكببت على الشعر، والمعاني، والغريب، ولزمت أبا عبد الله بن الأعرابي، بضع عشر سنة». 
لقد وظف ثعلب معارفه المختلفة من أجل صياغة قواعد كالتي صاغها العلماء عن اللغة والفقه والمنطق. وقد قسم قواعد الشعر إلى أربعة أقسام: أمر – نهي – خبر – استخبار.
إن تأليف قواعد الشعر لم يكن دون مقدمات. فالقرن الثاني الهجري عرف حركة ثقافية قوية كانت تدعمها الدولة الإسلامية مما أدى إلى تأسيس حقل معرفي جديد ابستمولوجي القواعد، ولقد تطور الأمر مع المرزوقي واضع عمود الشعر، لهذا العمود امتدادات لا مجال لذكرها هنا) إذ أن من لزمه فهو المفلق المعظم، والمحسن المقدم. وبالموازاة فقد عرفت البلاغة تطورا مهما باعتبارها حقلا من حقول الفن وهو فن استعمال اللغة المؤسلبة، إلا أنه لا يمكن الفصل بين البلاغة والنقد، إذ ثمة اشتراك وتداخل بين. ولقد طورت البلاغة مفاهيم عديدة. فأبو عبيدة (210 هـ) ابتكر مفهوم المجاز من خلال تفسيره للاستعمالات البلاغية القرآنية. وهذا الجاحظ (255 هـ) الذي انشغل بتحديد دلالة المصطلحات لما مارس المعرفة بالسؤال مما دفع بالبلاغة العربية إلى عمق في النظر والتفكير. أما الجرجاني فقد استثمر المفهوم في تأسيس نظرية لإدراك جماليات النسيج البلاغي وهو المتمثل في “نظرية” النظم، وهي نظرية متماسكة استثمر فيها عبد القاهر الجهود البلاغية التي سبقته..ونخلص من هنا إلى وجود خيوط متماسكة بين مجموعة من النظريات في الخطاب النقدي والبلاغي العربي التي عملت دوما على فهم جيد لخصوصية النص الأدبي وتجلى ذلك بشكل واضح عند قدامة بن جعفر في (نقد الشعر) ولدى عبد القاهر الجرجاني (دلائل الإعجاز) وغيرهما… وهذه هي فكرة صاحب “المرايا” التي عمل على تأكيدها في الكتاب الثاني “المرايا المقعرة”، إذ إن كل ما فعله الحداثيون العرب هو الإقبال على النظريات الغربية عوض تطوير النظريات العربية، وبالتالي، بناء هوية ثقافية ترتكز على التراث والأصل العربيين. 
_____
– ورد في (معجم الأدباء) لياقوت الحموي.
________________
*ناقد من المغرب

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *