*رائدة زقوت
كان لا بد لي من تنفيذ خطتي، الألم الناتج سيكون أخف وطأة من الألم الذي تربى في داخلي وتعمق، وأنا أعيش معه هنا حيث العالم غير العالم، وأنا غيري بالمطلق، لست أعاني من أمراض، أقصد لم أكن أعاني سابقاً من أمراض نفسية تورثني القهر والذل، وأنا أرقب سقوطي في هاوية الحب من خلف زجاج مصقول.
توارثنا الألم كابراً عن كابر، وجع الحياة ووجع الجسد نتيجة حتمية لأوجاع الحياة ذات الوجه الواحد الممتقع الشاحب. أمي، تلك المرأة التي قادتنا لنكون الأفضل والأجمل، نسيت أن الحظوظ وراثة، وأن الجينات تتغلب على العلم والقيادة الحكيمة، وأن تحسين الوضع المادي لن يصب بالضرورة لصالح تعديل خريطة الجينات والخروج من معتقلات الألم المتوارث. في حياكتها المستمرة للملابس شاهدت أول دفقة دم يتسبب فيها رأس دقيق ورفيع حد التلاشي.
منهمكة في حياكة الملابس التي تخيطها لتدريسنا وإخراجنا من مستنقع الفقر بالشهادة الجامعية، سلاحاً في وجه الحاجة وجلباً للأزواج المقتدرين مادياً على فتح بيت الأحلام الذي فاتها أن تفتحه سابقاً برفقة أبي الذي استغل مهارتها في الحياكة؛ ليرمي بكل عجزه ومسؤولياته عليها ويهرب تاركاً إياها مع ثلاثة أطفالٍ أكبرهم أنا التي كنت وقتها في تمام حاجتي لهما معاً.
في بحر انشغالها وإثر نوبة شرود، لم تفطن إلا وإبرة ماكنة الخياطة تخترق إبهامها، تنساب قطرات الدم بثقل متصنع، أو لأن مجرى الدم ما يزال مغلقاً بتلك الإبرة صاحبة الحظوة بإحداث هذا الوجع، الوجع الذي سبب لوجه أمي اصفراراً باهتاً حد البياض. وقبل أن نبدأ في الصراخ أنا وأختي رفعتْ سبابة اليد الحرة ووضعتها على شفتيها بعد أن زمتهما وقد غادرهما اللون الأحمر من ألم الإبهام، في إشارة لإجبارنا على السكوت وعدم الصراخ، أذعنّا لطلبها وعيوننا فارغة مشدودة ليدها العالقة تحت رحمة الإبرة والماكينة العاقة، سحبَتْها على مهل فتدفق الدم بسخاء، لفّتها بقطعة قماش كانت بجوارها، وذهبت لغسلها ثم غطتها بالملح على سبيل التعقيم، أو على سبيل استيلاد الألم ليتناسب مع حجم ألمها الداخلي.
من تلك اللحظة عرفتُ ألم الرؤوس الرفيعة الشاحبة، عرفتُ أن الوجع الداخلي يحتاج لوجع خارجي يتساوى معه بعدد قطرات الدم على أقل تقدير، حتى لا تظلمه وتتركه يعشّش داخلك وأنت معافى خارجياً، كما يبدو لغيرك، وليس لك.
لم أكن أحتاج لأكثر من هذه الوخزة التي خرجت من عمق الذاكرة؛ لأبتكر طريقتي الخاصة في عقاب نفسي على ما فعلت وما انزلقت له، أحضرت دبوساً برأس أغلظ قليلاً من تلك الإبرة التي فعلت فعلها في إبهام أمي، استجمعت قواي كلها يدفعني وجعٌ تغلغل في عمق الروح، أعدت تشغيل جهاز حاسوبي المحمول، دخلت لكل المواقع التي جمعتني به، «السكايب».. «الفيسبوك»… وغيرها الكثير، فتحت صفحات المحادثة وأشعلت الضوء الذي يعلن عن حضوري، أضحك باكية من إعلان الحضور بإضاءة تبدو للمتمعن نقطة صغيرة في صفحة بيضاء، ولكنها كبيرة.. كبيرة جداً بحجم الغرف السرية التي تضاء بالأحمر لضمان عدم دخولها تحت طائلة العقوبة، بحجم إشارة خطر كبيرة حفرت على صخرة نُصبت على طرف واد شديد الانحدار لتنبه السائق: قف، أمامك منحدر. لم يضعوا أمام إشارة إثبات الوجود في هذا العالم المتنامي الصغر، إشارة تحذيرية للمنزلقات الموجودة خلفها، فكانت النتيجة أنني سقطت في قعر الواد.
أمسكت الدبوس وثبته بيدي واقفاً.. منتصباً ينتظر ضحيته، غرست سبابتي فيه وأنا أكتم صرختي، تماماً مثلما فعلت أمي سابقاً مع الإبرة. كان جسدي يرتعش، وكل خلية فيه تصرخ من الألم. دخلت لحسابه في «الفيسبوك»، نعم.. حسابه هو، لأعاقب نفسي، وبالدبوس المغروس بسبابتي رحت أضغط على زر الإعجاب على كل جملة نشرها، فهنا كانت بداية انزلاقي نحوه بتهورٍ لم أسعَ له يوماً، مدفوعةً بالبحث عن فارس الأحلام الموعود، فارس الأحلام الذي أضاع عنوان بيتي وطريقه، المخلّص الذي انتظرته أربعين عاماً، قضيتها أتجهز وأعد العدة لحضوره، تأخر كثيراً، فقررت البحث عنه بنفسي، بعد أن لفّني الحياء وعزة النفس عن استجدائه على أرض الواقع، دخلت للبحث عنه هنا في العالم الموجع حد الموت، وجدته أو هكذا خُيّل إلي! بصورته وحرفه العذب جذبني نحوه كما يجذب المغناطيس العملاق المسمارَ الحديدي النحيل، منحته كل الحواس، وكل خلايا جسدي، لم أبخل عليه بشيء.. أي شيء مهما عظم أو صغر، بدءاً من الكلام وانتهاءً بالجسد، كنا نتقابل هنا كل ليلة لنعيش حياتنا الأخرى بكل تفاصيلها، زوجاً وزوجة افتراضيّين، لن أقول عاشقَين، فقد تجاوز ما بيننا العشق، أقنعني أو أقنعت نفسي بقبول فكرة أن نتزوج هنا، تماماً مثل فكرة الزواج بالدم أو الزواج بالهاتف بالعهد والوعد لا بالمواثيق والحجج، تزوجنا بالعهد.. تعهد لي بالسعادة هنا وتعهدت له بالحب والوفاء، غاب عن عقلي كل شيء إلا هو، سيطر على تفكيري كاملاً، بتُّ فتاة قاصرة بعمر الأربعين أعتاش على علاقة افتراضية وجنس افتراضي يغذي أو هُيئ لي أنه يغذي حاجة جسدي المصاب بلعنة العنوسة والحاجة لمن يشعل فيه الحياة.
كنت قد أدمنته حد اللارجعة، أتلهف لمقدمه وأتجهز كل ليلة مثل عروس في ليلة زفافها، كان في البداية يتلهف لقدومي ويعاتبني بقوة إن تأخرت، كان يغار من أي حرف أخطه تعليقاً لأي صديق على صفحته، ابتعدت وأنا أطير سعادة عن الجميع، اختصرت العالم فيه، بات هو عالمي الكامل.. حتى كان ذلك اليوم الذي انتظرته طويلاً وعندما جاء الضوء الأخضر ليعلن عن قدومه فتحت الكاميرا وإذ بوجه صديقه يطل علي من خلالها، ارتعبت وفقدت القدرة على التصرف، أصبت بالشلل لهول الصدمة، أغلقت «اللاب توب» من دون أن أغلق أي حساب، ارتجفت كثيراً وتعرقت أكثر، هربت للحمام، غسلت وجهي عسى أن يكون هذا الأمر حلماً.
كان الألم يعتصر دموعي فتنساب مختلطة بقطرات الدم التي كانت تخرج متحدّية الدبوس لتتكور أمامي على لوحة المفاتيح معلنة نهاية كذبة كبرى أقنعت نفسي بأنها حقيقة مسلَّمٌ بها، عشتها بكل انجراف كمراهقة طاردت أول من رماها بابتسامة عند سور المدرسة، قبل أن تكتشف أنه كان يبتسم للمدرّسة التي تسير خلفها.
بعد أن انتهيت من «الفيس» دخلت لـ «السكايب» وضغطت على كل كبسة وجدتها أمامي، «السكايب» ناقل الصورة والآهة التي كانت تخرج من حشاشة حاجتي له، لتصب في قلب اعتياده على الترنم بالزواج عبره من كل أنثى هربت من واقعها لتسقط في واقعه، وفي بحره المليء بالشباك، وكذا فعلت مع كل حساب بريد امتلكه حتى الحساب الرسمي الذي استقبل عبره أمور العمل.
بعد أن انتهيت كانت يدي على وشك أن تشلّ بالكامل، سحبت الدبوس وحبات العرق تنساب لتشكل مع نقاط الدم والدمع ثلاثية ترفع نعش روحي على أكفها لتدفنها في مثوها الأخير. لم أعمد للملح كما فعلت أمي سابقاً، الملح أطهر من أن أدنسه، الملح علاج لجروح من كدوا وتعبوا ليعينهم على مواصلة المسيرة، وأنا لم أُتعب سوى قلبي وجسدي المنهك من الوحدة.
بتجبر لم أملكه يوماً أخرجت قلم الكحل ووضعت رأسه وأنا أحركه بكل ما في جسدي من وجع في ثقبَي الدبوس من الطرفين، هكذا يكتمل العقاب، ولن أنسى ما حدث لو التأم مكان الثقب، ستبقى النقطة السوداء على الوجهين تذكّرني دوماً بخطيئتي الكبرى.
عدت لجهاز الحاسوب، عمدت لحذف كل حضور لي في مرابع العالم الافتراضي وأغلقته، لملمتُ المشيعين معي ودخلت لغرفتي وأقفلت الباب خلفي.
_____
قاصة من الأردن/ الرأي الثقافي