التصوف الخادع عند الأدباء العرب


يحيى القيسي *

( ثقافات ) 

يمكن للقارئ والباحث الناقد، أن يمر علي عدد كبير من الأعمال الأدبية العربية، التي يشتم منها رائحة التصوف، من خلال الموضوع والمعجم اللغوي والتراكيب، لا بل أن هناك شعراء وروائيين، كلما ذكروا في محفل أو ندوة تم وصفهم بأنهم من المتصوفين، فيقال فلان شاعر صوفي، وفلانة روائية صوفية، وبالطبع ظهرت هذه الموجة من الكتابات وأصحابها بشكل أساسي بعد نشر أعمال الحلاج في طواسينه، والنفّري في المواقف والمخاطبات ، ومن قبلهم الشيخ الأكبر ابن عربي في رسائله، وفصوص حكمه، وفتوحاته المكية وغيرها.

لقد أصيب عدد كبير من الشعراء الحداثيين العرب، بدهشة لا مثيل لها، وهم يقرؤون نصوصا مكثفة بلسان عربي مبين، كتبت قبل ألف سنة أو يزيد، ولهذا ظنّ بعضهم أن جذور قصيدة النثر تعود إلي هناك، وهذا في رأيي تلبيس غير مقنع، فالسياقات التي نشأت فيها قصيدة النثر العربية الحديثة، منذ نصف قرن، وتأثرها بالتجربة الشعرية الغربية والترجمات، تختلف تماما عن تلك الحالات التي مرت بها لغة المتصوفة، عبر انشغالها بالترميز العالي، والإشارات بدل العبارات، من أجل التقية في الأساس، فلغة المتصوفة المسلمين ذهبت إلي أقصي درجات التورية والتخفية والتكثيف، لأنّها في الأساس لغة الباطن لا الظاهر، واللامرئي واللاملموس، ثم إن أهل الظاهر من المسلمين قاوموا بشدة التصوف وأهله، ويكفي أن نطلع علي مأساة الحلاّج وصلبه، لنعرف كم كان الأمر صعبا علي أهل المعارف الباطنية والتجليات الإلهية، أن يتواروا خلف حجب الكلمات ومعجم مصطلحات القوم كما يطلقون عليه..!

إن فتنة اللغة الصوفية وتقنياتها السردية، قد استهوت ـ كما أشرت ـ عددا من الكتاب العرب لينسجوا علي منوالها، ولنا في الرواية مثل واضح هو جمال الغيطاني في التجليات تحديدا، ومن الشعراء عدد لا بأس به، ومن خلال قراءة أعمال هؤلاء والالتقاء ببعضهم عن قرب، غالبا ما يخرج المرء بشيء من الإحباط، إذ أن التصوف هنا فقط في اللغة أي تصوّف فني، وبشكل يبدو أحيانا تزويقيا، أي كنوع من الحلي التي تعطي لنصوصهم دفعة إشراقية، وجمالية، وأحيانا تبدو الاستعارات خبط عشواء ، وهم يضعون المفردات في غير أماكنها أو دلالاتها بدعوي التجديد، والأصل أن علي المتورط منهم في الدخول إلي هذا العالم الباطني المليء بالأسرار والرموز والإشارات، أن يفهم كل مفردة، وما دلالاتها الأصلية، ولم قيلت، حتي يمكن له الاشتغال عليها بشكل جديد، والحال أن أغلب الكتاب المتصوفين فنيا، لا يقتنعون أساسا بالتصوف كرؤية للوجود، وكبديل عن الاعتقاد التقليدي يقنع العقل والروح والجسد معا..!

بالطبع فإن من حق الكتاب العرب شعراء وروائيين وقصاصين، أن يستفيدوا من التراث الروحي الكبير، الذي تركه لنا بعض أجدادنا من العارفين، فهو مفتوح للجميع لا حقوق لنشره وتوزيعه أو الإفادة منه، ولهم أيضا أن ينهلوا من التراث العالمي لغة وموضوعات وأفكارا، ولكن من غير المعقول أن لا يتم التعرف عميقا علي هذه التجارب،
قبل تمثلها أو توظيف بعض مفرداتها، ومعرفة الينابيع الأولي التي خرجت منها وليس وضعها قسرا في نصوص خارج السياق كله. إن بعض النصوص تبدو خادعة ومضللة، حينما تزدحم بالمفردات المسطو عليها من أعمال العارفين الكبار، الذين عرفوها بالمجاهدة والسهر والإشراقات والإلهامات، فنصوصهم حقيقية خارجة من نفس تعرف تماما معني تلك المفردات، وتتمثلها في الظاهر والباطن، وتعتقد بفعاليتها في الكون، ولهذا فإنّها تصل إلي قلوب المتلقين مباشرة، والأعمال المقلدة لهذه النصوص أو التي تسطو عليها دون دراية تشبه تماما الفرق بين الجواهر المرصعة بالأحجار الكريمة، وتلك المزورة التي تشع بريقا خلّبيا سرعان ما ينكشف للناظرين..!

* مؤسس ورئيس تحرير ( ثقافات)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *