*أسامة غالي
يأتي عمل الروائية لطفية الدليمي ‘سيدات زحل’ الصادر بطبعتين عن دار فضاءات / عمان/2012/ بأسلوب مغاير له من الميزات والخصائص ما يستدعي الوقوف عنده، ومتابعة البناء السردي المتجاوز للأنماط التقليدية السائدة في كتابة الرواية، بالإضافة إلى الموضوعة التي أرادت الكاتبة من ورائها تقويض الرؤية المجتمعية الموغلة بالاستبداد،وإعطاء الإنوثة دورها الذي تستحق في كتابة مدونة سردية في ظل سلطة الخطاب الذكوري ونزعة التهميش والإقصاء ..
تقترب ‘سيدات زحل’ من السيرة و تعتمد في مظانها الخطاب الواصف و تعدد الأصوات التي تعد تقنية أخرى من تقنيات الـ’ميتاسرد’ كذلك تعمد الكاتبة إلى تحويل الأحداث البديهية والمألوفة أحداثاً غامضة ومفاجئة عبر فعل التغريب المستفاد من اشتغالها على الكتابة المسرحية،مما يحيل الأمر إلى ان الكاتبة كانت تراعي تقنيات السرد الحديثة وتعدها عاملاً مهماً في نجاح المنجز الروائي، وهي بهذا جاورت بين السرد والمساءلة النقدية،كما انها حققت تجاوباً كبيراً بين التخيل والواقع .
ومن الجدير بالذكر ان عملية التجاوز لدى الكاتبة عملية فاعلة ومستجدة حتى فيما بين أعمالها الأخرى (عالم النساء الوحيدات 1986/ بذور النار 1988/ من يرث الفردوس 1989/خسوف برهان الكتبي 2002/ضحكة اليوناريوم 2001/حديقة حياة 2004)..
يجد القارئ في ‘سيدات زحل’ استدعاء لأحداث تاريخية ونصوص فلسفية وصوفية وحكايات من الموروث الشعبي ،ما آل بالرواية ان ترتقي بالطابع الرمزي بغية استيعاب طبقات تاريخية متعاقبة ،فباتت الاستعارة لبعض المسميات من قبيل (هولاكو / داود باشا/ المستعصم بالله/ المنصور/ الحجاج / الخليفة/ الحاكم/الإمبراطور ..) ترتبط ـ جرّاء فعل السرد ـ بمجريات أحداث راهنة و متشعبة وقعت في خضم احتلال بغداد واستياء وتأزم الوضع المجتمعي عقب ظهور الميليشيات وفعل القتل والتهجير،فمن خلال الاستدعاء يتم إيضاح ما يحصل من خراب ومحاولة للكشف عن بذرة الاستبداد ومراحل نمو هذه النزعات العدائية وما يقابلها في الجانب الآخر من نزعة إنسانية تسعى للانزواء والغياب جرّاء ما حدث وما يحدث،فتتمثل الظاهرة وتتجلى عبر ادوار الشخصيات الرئيسية والثانوية المندمجة في الرواية، إضافة إلى المدينة ‘بغداد’ التي تشكو هي الأخرى سطوة الواقع المرير منذ ان كشف (المنجم ‘ابن نوبخت’ والفلكيان ‘محمد بن إبراهيم الفزاري’ و’ما شاء الله بن سارية’ من طالع بغداد للخليفة المنصور عن أوفق المواقيت للشروع بالبناء فأتاه النبأ:
‘المشتري في برج القوس والشمس في درجة منه وذا ميقات صالح لبناء بيت حياتها ففيه دلالات الثبات والقوة وكثرة العمران وانصباب الدنيا بأموالها إليها’
يبتسم المنصور الذي كان يرى المدينة في المنامات واليقظات والسهو وتلوح له في ساعة الصفو وغمرة اللذائذ أو في آونة الكدر ولجة الشدائد ..
ها قد انصبت إليها الدنيا بنيرانها وجيوشها في كل عصر وأوان) ص240.
وفي ضوء هذا كله تجد الشخصيات تتنوع بمواقفها ورؤاها علاوة على كثرتها التي جاءت مكملة لشخصية البطلة ‘الراوي العليم’، إذ هاجس الخوف والرعب هو نفسه والهدف لتعرية التاريخ من طلائه الايديولوجي المزيف ‘والعثور على بغداد أخرى’ هو ذات الهدف الذي تسعى الشخصيات لتحقيقه وان بات حلماً كما جاء في وصية ‘الشيخ قيدار’ لحياة البابلي ‘الشخصية الرئيسية’ (أهبك ما تبقى لدي من مال لم يصلوا اليه، فتصرفي به لاجل حلم الشيخ قيدار..) ص237.
رغم كثرة الشخصيات المنسجمة مع تنوع التيمات الفرعية الممتدة على طول الرواية يبقى لشخصية ‘الشيخ قيدار’ صدى يعلو ويختلف،فهو كما يبدو شخصية واقعية متمثلة بعم ‘حياة البابلي’، من جانب آخر يمكن ان يعد رمزاً إلى العقل الباطن الذي طالما سارت ‘حياة البابلي’ بهديه وتشربت تعالميه، إذ تقول الراوية في (الكراسة 23) انه ترك ‘لحياة البابلي’ وصية تبدو أقرب إلى الإيحاء منها إلى التدوين والكتابة، تكتنز بين طياتها حكمة عظيمة تنم عن إنبعاث وجداني يتداخل صداه مع قولة النفري الإفتتاحية (وقال لي لكل شيء شجر ،وشجر الحروف الأسماء،فاذهب عن الأسماء تذهب عن المعاني. وقال لي إذا ذهبت عن المعاني صلحت لمعرفتي) ص7، هذا اذا نُظِر الى الشخصية ‘الشيخ قيدار’ في ضوء تساؤل ‘حياة البابلي’ (سمعت صوت رجل، كأنه أبي،كأنه يوصيني:
ـ لا تيأسي إبحثي عن عمك الشيخ قيدار، إبحثي عنه في الجهات والكتب والأسماء والرؤى…
‘انهمرت العبارات من صوتي أسرع من ذي قبل ولم أستطع التوقف عن الهذيان ،أهي مادة حكاياتي تتدفق من رأسي؟’ص14 فالراوية وان غادرت شخصية ‘الشيخ قيدار’ ووصاياه وأماكنه يبقى الهاجس الصوفي يخالط فعل السرد ويمضي معه نحو مساحات أخرى ..
______________
*كاتب من العراق
القدس العربي