الموت في صقيع الغربة


حسن مدن *



القليلون جداً منا يعرفون اسم الكاتب والفنان التشكيلي السوداني محمد حسين بهنس، الذي توفي منذ أيام قليلة في القاهرة التي أتاها قبل نحو عامين لإقامة معرض لأعماله، وقرر البقاء فيها .
ليس المؤلم في الأمر موته فحسب، المؤلم حقاً هو كيف مات وهو لما يزل في بدايات الأربعين من عمره: “جائعاً متجمداً من البرد على أحد أرصفة شوارع القاهرة”، هكذا كتب عنه من نعوا إلينا خبر وفاته، حيث إنه كان من دون مأوى، وضحية أزمة نفسية حادة، وهو الفنان العصامي متعدد المواهب حيث كان عازفاً على القيثار ومطرباً يلحّن أغانيه التي يؤديها وسط تجمعات من أصدقائه في المكتبات وفي ميدان التحرير .
إضافة إلى موهبته كفنان تشكيلي، أقام معارض عدة في الخرطوم وأديس أبابا ومدن أوروبية منها باريس، والقاهرة التي لم يبارحها منذ إقامة معرضه فيها .
لكن الكثيرين منا، بل لعلنا كلنا، نعرف اسماً آخر ذاع صيته في عالم الفن: المطرب العراقي فؤاد سالم، الذي رحل هو الآخر في دمشق الدامية، وحيداً، شريداً، بعيداً عن وطنه العراق، بعيداً عن سماء مدينته البصرة ونجومها ونخيلها، رغم شهرته التي أطبقت الآفاق، وأغانيه وموسيقاه الرائعة التي طافت الدنيا، وهو بالكاد ينهي عقده السادس، لكن المرض والغربة استبدا به في سنيه الأخيرة .
فؤاد سالم، من رواد الأغنية العراقية، واسمه الحقيقي فالح حسن بريج، وعرف عنه تأثره بالمطرب العراقي الكبير ناظم الغزالي . غادر الراحل العراق لأسباب سياسية بعد فصله من معهد الفنون، ثم مُنع من الغناء في الأماكن العامة، وتعرض للاعتقال .
وحدثني أصدقاء عراقيون التقيتهم في الكويت أن فؤاد سالم الذي لوحق بسبب موقفه السياسي من بلدٍ إلى آخر، حطَّ رحاله أخيراً في دمشق، ولم يقو على مغادرتها رغم ما حلَّ ويحل بها بسبب عجزه ومرضه، وكان من دون مصدر رزق لولا إعانات قليلة تأتيه من أصدقاء في بغداد .
هل كان فؤاد سالم وهو يلحّن ويغني رائعة بدر شاكر السياب: “غريب على الخليج”، التي كتبها السياب في ذروة وحدته ومرضه بالكويت، يرثي نفسه مقدماً، ويتوقع مآله الأشد وجعاً من مآل السياب نفسه؟
أمر واحد مهم جمع بين الإثنين: الفنان السوداني الذي لا يعرفه الكثيرون، والفنان العراقي الذي يعرفه الكثيرون، هو جحود الأوطان التي تترك مبدعيها يموتون في صقيع الغربة .
– كاتب من البحرين
الخليج

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *