لوكيميا الروح !


خيري منصور


هكذا بدأت المسألة، مجرد اختبار لما تبقى في الروح من كريات بيضاء، تقاوم فيروس الكراهية، فالليلة بيضاء لكنها ترتدي غلالة سوداء شفافة، لم تحجب ندف الياسمين، ففي هزيعها الاخير شهدت الذاكرة قيامة عاجلة، وتدفق الاصدقاء ‘الغائبون لكنهم لم يغربوا لأن قهوتهم بردت في الفناجين ومنافض سجائرهم نظيفة ، فالحاجة في هذا الهزيع الابيض الموحش لمن ليسوا هنا تخترع ‘حضورهم على نحو ساطع، فما اقسى ان يرتد البوح الى القلب، وان يراقص المرء ظله في غياب الأنداد ‘من البشر.
قد تكون ميدوزا قد مرّت من هنا ذات ليلة بيضاء كهذه، فتحجر كل ما نظرت اليه، من البشر والشجر فغدت المدينة غابة من الاوثان ، فالحياة الضرورة او العيش كما سماه اليوت وهو يتساءل عن الحياة التي اضعناها من اجله افرزت هذا الطغيان للرغيف على الوردة تماما كما سطت الكهرباء على القمر ورمته على قارعة السّماء.
توافدوا واحدا واحدا بعد الآخر، من مرتفعاتهم حيث يسهرون، ومن بيوتهم الحجرية الصغيرة التي لا تتيح لهم حتى التثاؤب، حيث لا ينادمهم غير جذور اعشاب شربت ما تبقى من نخاعهم. انهم الاحياء لا الموتى، لأن الموتى هم هؤلاء الذين عاقبتهم ميدوزا الاسطورة بأن حولتهم الى حجارة لأنهم بددوا الوقت بسفاهة مُقامر ينتظر الكسب الذي يأتي ولا يأتي، على غرار ذلك الانتظار العقيم في مسرحية بيكيت، ‘ولو اخضعتنا الفيزياء لقانونها الصارم لصدقنا بأن الموتى الذين تسعى امعاؤهم ‘كالثعابين وتجرهم نحو العلف هم الاحياء وان جارنا المستغرق في موته وصمته وغيابه اكثر حياة من ارسطو او المتنبي او أي غائب ‘استعصى على ان يكون غابرا مثلما استعصى على الغروب.
في ليلة بيضاء كهذه يتسلل البرد البدائي الى الرّوح فيصيبها بقشعريرة لا سبيل الى تهدئتها بالدفء او الدواء، فيعيد المرء اكتشاف وحدته، وغربته وغرابته معا، وأن العقد الاجتماعي الذي فرض عليه بلا توقيع منه هو القدر الذي لا فكاك منه.
هذا البياض ليس بكرا، لانه ما ان لامس الأرض ‘ومن عليها فقد حتى عذريته تطلب الامر غسل الماء بماء آخر، انها ثرثرة الطبيعة التي لم تجد منذ البدء من يترجمها، اما رطانة الرعد ومراوغة البرق الذي يأتي للحظة كي يقول بأنه لن يجيء فهي مفردات في معجم ‘اخفق الفلاسفة منذ آدم في تفكيكه، لهذا هرب البشر من محاولة الفهم الى محاولة التأقلم القسري تماما كما هو الموت، بوضوحه اكثر من شكل صخرةٍ عارية وبغموضه اكثر من منابع اللون الاسود. لهذا كان احد الفلاسفة عندما يسئل عن الموت يترك جسده يتولى الاجابة لأن ما يموت هو الجسد، فتكون الاجابة القشعريرة ذاتها التي تسري في الروح وهذا ما سماه مالارميه بعبارة لا تقبل الاضافة او الحذف ‘ان الجسد لحزين’
**********
في هذا الهزيع الأبيض، حيث تختفي ملامح الاشياء كلها تحت اقنعة باردة، يبحث الانسان عن الانسان فلا يجده في غابة الاوثان، فيلوذ بالذاكرة، ويستحثّها على القيامة، يعد القهوة لاصدقاء ليسوا هنا، وليسوا هناك ، وحين تهم يده بالمصافحة تبقى معلّقة كفرشاة الاسنان في مركبة فضائية انفصلت عن جاذبية الأرض، ويشعر انه الرجل الطائر الذي تحدّث عنه ابن سينا، وتخيل انه لا يلامس شيئا، ولا يتماس حتى مع نفسه، فراغ اسود سحيق، محاط من الجهات الاربع ببياض بارد، اما الجهة الخامسة فهي ما تبقى في الهزيع الأخير، انها جهة الاصدقاء الموتى، وما تضمخت به تضاريس الذاكرة من عبق رحيقه من ملكوت آخر.
كل ما في الأمر اننا نكتب عن كل ما هو سوانا، لكأن الاقتراب منا محظور، ما دام التشيؤ ونزع الآدمية قد بلغ هذا الحدّ من الأدلجة العمياء.
اذكر ان هنري باربوس في روايته الجحيم جعل الحياة كلها في غرفة نصف مظلمة، ‘والانسان يتلصص عليها من ثقب في جدار، وما ان شاهد امرأة بدأت تتعرى حتى تحولت الغرفة المظلمة الى نصف مضاءة، وعلى امتداد الرواية كان يقشر الانسان كما لو انه يقشر بصلة ليصل اخيرا الى اللاشيء، اما المفاجأة فهي ان آخر سطر في الرواية يدمرها ليعيد تشييدها حيث يقول : ما من شيء خارجنا لأن كل شيء هو فينا!
كان لدي في هذه الليلة البيضاء ذات الغلالة السوداء الشفافة الكثير لأقوله عن ثقافة أقامت في الاحتضار، وبدأت تجتر نفسها ثم اخذت تتآكل لأنها اشبه بدمية تحقن بالحليب والجلوكوز لكنها لا تنمو، ‘وليس فائض البياض البارد والموحش ما اعادني إلي، بل شخير مدينة لا يقبل الترجمة، فهل هو كوابيس ام احلام زرقاء ؟
وفي مثل هذا الهزيع لا بد من آخر نحزره على الفور من رنين هاتفه، على الأقل لأنه ساهر او يستشعر الوحشة، لكن ميدوزا التي مرّت من هنا وربما خلف نافذة بيتي حولت كل ما حدقت اليه الى حجر .
* * * * * * *
حين وصل اول انسان الى القمر سخرت سيمون دو بوفوار من الاحتفال الكوني به، وقالت انه يجهل معظم ما يحدث تحت قدميه ومن حوله، وكان اجدر بسكان هذا الكوكب ان يفهموه قبل ان يغادروه الى كوكب آخر، انهم كمن يترك امه ويلوذ بزوجة أبيه.
ونحن نكتب عن كل شيء سوانا نفعل الشيء ذاته، لكن على نحو آخر، ونصبح كمن يهرب من حضن امه الى حضن امرأة لا يعرفها ولا تعرفه ولا يصحو من هذه النوبة من الاغتراب الا حين تسأله المرأة الاخرى : من انت ؟
ومن صنفوا الكذب الى الوان كي يصبح الأبيض بريئا، تجاهلوا الوان الصمت، فمنه الابيض الثلجي، والبنفسجي والاخضر والأزرق.
صمت البحر الهادي أزرق، وصمت الغابة العذراء أخضر وصمت الموتى بنفسجي، اما صمت هذه الليلة البيضاء فهو اسود لهذا فهو لا يقبل الترجمة، فهو مغمور بالشخير، والكوابيس التي يفرزها سريّة، لأن الناس ما ان يستيقظواحتى يبذلوا ما في وسعهم لنسيانها!
************
‘ ‘ ‘اذكر ان شاعرا فرنسيا كتب عن صناديق البريد المهجورة في زمن الفاكس والانترنت وسائر السلالة الافتراضية، كان ذلك عندما شاهد حمامة تبيض وتبني عشها في صندوق مهجور.
اعرف ان زمنا بلا عشاق ولا سعاة بريد ولا رسائل ممهورة بالأصابع هو زمن افتراضي، الانسان فيه شبه انسان، والشاعر شبه شاعر والحياة شبه حياة وكذلك الموت.
ان ما اخفق فيه التاريخ من تقريب بين البشر حاولته الطبيعة، سواء في مثل هذه الليلة البيضاء او اثناء زلزال، لكن هذا الزمن الاشبه بجملة معترضة في كتاب الأبد اعلن الطلاق البائن بين الكاتب والمكتوب والشاعر والقصيدة والمواطن والوطن وأخيرا بين التاريخ والطبيعة، فالليلة البيضاء صمتها أسود!

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *