محمّد محمّد الخطّابي*
( ثقافات )
انصرف فصل الخريف وولّى بخرفه وتخاريفه، وجاء فصل الشتاء وأطلّ، وهلّ،وهطل علينا بغثائه، وسيله، وأتيّه، وعرمرمه ، وعواصفه، وأعاصيره ، وزوابعه، وتوابعه، وبرقه، ورعده، وبرده، (بسكون الرّاء) وبرده (بفتحها) ،وزمهريره، وصقيعه، وثلجه، وندفه، لقد مرّ قبله فصل الصّيف المشرق، مضى وإنقضى، مرّ كالضّيف ، كسحابة صيف..!
أوراق الشّجر
لقد خرجت الذّئاب من عرائنها مذعورة ،وبرحت مخابئها، وأسرعت مهرولة نحو الغاب البعيد..إنها تنظر إلى بعضها قلقة، متوجّسة،جزعة، ملتاعة، كان الطّقس باردا، وأديم الثرى مبلولا،وأوراق الأشجارالصّفراء اليابسة تساقطت الواحدة تلو الأخرى بدون إنقطاع من علياء أدواحها الشاهقات،وأغصان أشجارها السامقات.. الذئاب ما إنفكّت تحدّق النظر فى بعضها، نظراتها حيرى.. ماذا جرى..ماذا جدّ واستجدّ فى علم الله..؟ أمعنت ذئبة النظر فى عيني رفيق دربها، وأنيس عمرها فى هذا الرّبع الخالي الموحش الرّهيب ، إنه أكبر الذئاب سنّا، وأخبرها حكمة، وأكثرها مكرا، وأشدّها دهاء، وأفتكها خطبا، وأقواها جسما، وأحدّها أنيابا، وأثقبها نظرا، وأفصحها “عواء”… ! سألت الذئبة خليلها..ما الخطب..ما الذي أراه..؟ ما هذه الأوراق المتساقطة المتكاثرة التي أراها فى كلّ مكان من الغاب..؟ فيجيبها الذئب الحكيم على الفور: هذه الأوراق إنّما هي رسائل تنبئنا بقدوم فصل الشتاء ..حيث لا زاد ، ولا مؤونة، ولا ذرع ولا زرع، فعلينا إذن أن ندّخر قدر المستطاع ما أمكننا من القوت والفتات ،حيث سيتعذّر علينا، أو سيصعب الجولان والصّولان فى الهزيع الأخير من الليل ،وسيصعب علينا الخروج إلى المراعي، والمروج ، والسهول والحقول التي تكون خالية فى هذا الفصل من الأغنام والمعز، وتكون الإصطبلات والزروب التي تغصّ بالديكة والتيوس، محكمة الأبواب و مغلقة النوافذ، والمسالك، وموصدة المنافذ ،والشبابيك مع قرب هطول الأمطار، وتكاثر الأخطار…ثمّ سرعان ما عوى ، ثمّ أقعى، فاهتجت ، ثمّ هجته…فصار كالبّرق يتبعه الرّعد..!
هذه لقطة،او لحظة، أو برهة، أو هنيهة، أومشهد من حياة الذئاب، أو الثعالب، ذات المقالب والمثالب، التي لا تغيب قطّ عن حياتنا، وتفكيرنا، وأمثالنا، ومعايشاتنا ،وسلوكنا،وتصرّفاتنا، وصراعاتنا، وشراستنا، ومكرنا، وغيّنا،وخداعنا، ألم يقل أمير شعرائنا أحمد شوقي يوما :
برز الثــــعلب يوما ..في ثياب الواعظــــينا، يمشى في الأرض يهدى.. ويسبّ الماكرينا ،
و يــــــقول الحمـــــد لله.. إلــــه العالمــــينا، يا عبـــــاد الله توبوا.. فـهو ربّ التـّــائبينا ،
وازهـــــدوا فى الطّير إنّ ال..عيش عيش الزّاهـــدينا…و اطلبوا الدّيك يؤذن.. لصلاة الصّـــبح فينا
فأتى الدّيك رسولا.. من إمـــــــام الناسكينا.. عرض الأمر عليه.. و هو يرجــو أن يلينا ،
فأجاب الدّيك عذرا.. يا أضـــلّ المــــــهتدينا…بلّغ الثعلب عنّي.. عن جدودي الصّــــالحينا،
عن ذوى التيجان ممّن.. دخلوا البطن اللعينا..أنهم قالوا و خير القـ.. ول قول العارفيــــنا ،
مخطئ من ظـــنّ يومـــا… أنّ للثــــعلب دينا..!.
وحريّ بنا نحن القول.. فى هذا الزّمن( اللعينا).. يا سائلا، لا تعجل علينا.. وأنظرنا نخبّرك اليقينا.. كم من ثعلب وذئب..يعيش اليوم بيننا وفينا..!.
عالم اليوم
العالم الذي نعيش فيه أضحى عالما صغيرا ومحدودا،ولكنّ مشاكله أصبحت مشاكل كبيرة لا حصر، ولاعدّ، ولا حدّ لها، ترى هل حدث أن فتحت المذياع ، أو رأيت التلفاز، أو مررت بحسابات التواصل الإجتماعية يوما التي غدت تملأ حياتنا ، وحملت إليك هذه الوسائل يوما خبرا سارّا أثلج صدرك..!؟
كلاّ لم يحدث ذلك إلاّ لماما. كلّ الذي ينتهي إليك من الأخبار فى الغالب إنّما هي أخبار الفواجع الطبيعية، والحوادث المؤلمة، أو جرائم الإنسان ،وويلات حروبه مع أخيه الإنسان ، ثم أخبار القتل والتقتيل، والتعنّت والتنكيل، والبطالة، والعاطالة والزلازل ،والفيضانات، أو الظلم والتظلّم، والقحط والجفاف.
ذلك هو حال عالمنا الكئيب اليوم،والحقيقة أنّ هذا العالم لم يعرف قطّ نوعا من الهدوء ، بل إنّ ما يحدث هو من صميم الواقع الذي هو جزء لا يتجزّأ منه، ولذا تصدق قولة الفيلسوف القديم الذي كان قد أعلن أنّ العالم لن يهدأ قطّ ، وإنّ الحروب حتى إذا هدأ وخبا أوارها فى بقعة ما من بقاع العالم، فإنّها سرعان ما تثورأو تثار فى بقع أخرى منه.هذه حقيقة لا ينكرها أحد ،ولكنّ هل تساءلت يوما مّا عن سرّها..؟ ولكنك تظلّ مع ذلك عاجزا عن معرفة هذا السرّ الغامض الذي لا يستطيع أحد أن يدلي فيه برأي. فما يحدث من الفواجع على إختلاف أشكالها وألولنها من الطبيعة أو من بني البشر لا زالت لغزا محيّرا أمام الإنسان فى كلّ مكان.
وأمّا بالنسبة لما يكون للإنسان سبب فى إحداثه من ويلات الحروب، وجرائم التقتيل والتنكيل والتمادي فى التظلّم والغيّ ، ففي هذه التجنيّات، والتطاولات ، والتجاوزات ،غالبا ما يكون الإنسان هو المسؤول الأوّل عمّا ترتكبه وتقترفه يداه،وبالمناسبة لعلّك سمعت عن الأخبار التي تنبيك كلّ صباح عن تفجيرات وتجارب نووية تقوم بها دول وبلدان تصطفّ فى صفوف العالم الأوّل.، وحتى لو تعالت أصوات وصيحات الإحتجاجات والإدانات فى مختلف أرجاء المعمور، فلا رادع، ولا قارع، ولا واعز يجعل تلك البلدان تتراجع عن هذه التجارب المرعبة التي تصطكّ لها الأسنان، وترتعش بها الركبان، فى كل مكان. كان ذلك كما يزعمون لحماية هذه البلدان ” المتقدّمة والمتمدينة” من الأخطار الخارجية التي تهدّد أمنها القومي..!!
قد يفهم من هذه القولة السخيفة معاني شتّى، ولكنك لن تستخلص منها سوى عجرفة الإنسان وغروره، و غطرسته ومروقه وجنونه كذلك ، فحتى لو قلّمت أظافره، فإنه ظلّ لصيقا بحيوانيته يرتكب بإسمها وبإيعاز منها أفظع الجرائم ، وأفدحها بأسلوب مهذّب..!
.
مشاكل لا حصر لها
مشاكل الدّنيا إذن كثيرة ومتشابكة لا حصر، وإلى جانب هذه المشاكل الكبرى ، هناك نوع آخر من المشاكل الصغيرة على الصعيد الفردى ، فكم من أناس يعيشون غارقين فى بحور الآلام، لا يستطيبون، ولا يستطعمون لذّة العيش ولا هناءة الحياة، وهم يحيون إعتباطا أو جزافا ..إنّهم يعملون، ويأكلون،ويتزاوجون، ويتناسلون ، وتنزل السّياط على ظهورهم من كلّ صوب، سياط الطبيعة والإنسان معا..!
ولكن كيف يجابه المرء أمثال هذه التحدّيات التي تهدّده اليوم من كلّ جانب أكثر من أيّ وقت مضى..؟ أمّا على المستوى العام ، فإنك تراه يندمج مع الجماعة إن وجد إلى ذلك سبيلا.. فالظلم إذا عمّ خفّت وطأته ..!
وأمّا على المستوى الفردي فليس له عزاء سوى الصّبر والسلوان ومرارة التحمّل ومضضه مهما عظم المصاب.وماذا له أن يفعل غير التذرّع بالصّبر والأناة ما دام لا يتوّفر على حيلة يقهر بها هذه التحدّيات ، ألم يقولوا فى القديم بأنّ الصّبر مفتاح الفرج، وهو حيلة من لا حيلة له..!؟ لذا نجد أنّ الذين يتمسّكون بحبل الصبر، وتلابيبه من الناس هم الأغلبية السّاحقة، وبعض النّاس صبروا على الصّبر ، حتّى ضاق الصّبر من صبرهم..! .
وهناك منهم من يلوذ بالفرار إلى عالم الفنون، والجنون ،والألوان ، والشجون ،والخلق، والإبداع ،ونظم الشعر، وفى بحوره يفرغ الكثيرون منهم ما تختزنه نفوسهم من ضغوط، ومضض العيش وغيظه، كما أنهم فى الوقت ذاته يجدون فى ذلك ضربا من االتسرية والتسلّي، والعزاء النفسي ،أو التعويض الوهمي لمعاناتهم وأنّاتهم ،وآهاتهم ،ومصيرهم المحتوم.
وهناك نوع ثالث لا يقوى على تنفيذ البند الأوّل، ولا الثاني فتراه يهرب بجلده فارّا خارج الحياة المألوفة والمعروفة ، أيّ بمعنى أوضح يبيع نفسه لشيطان الرّدى، وضلال التّوى رخيصة عن إختيار وطواعية ورضى حينا..أو مسوقا مجبرا ومجرورا إليها قهرا وقسرا رغم أنفه حينا آخر..!
وهناك نوع رابع يعجز عن القيام بما فعله هذا ،وذاك، وذيّاك،أو تغيب عنه هذه الفكرة أو تلك ، وأمثال هذا النّوع لا تلبث ان تراه ضائعا تائها مارقا مجندلا بين دهاليز الجنون ،وبراثن الخبل العقلي مدفوعا نحو ذلك بقوّة غير مرئيّة، وتلك لعمرى من أقسى وأعتى ضروب المعاناة والمآسي قاطبة.
فاوست المسكين
ألم تر إلى قول (فاوست) المسكين المنكود الطّالع، الذي ينتمي إلى هذا النوع الأخير حينما قال: “أجهدت نفسي فى دراسة الفلسفة، والطبّ، وتفقهت فى القانون ،ولكن هيهات ،وألممت أيضا ويا للأسف بعلم اللاّهوت ،ثمّ أراني أنا الأحمق المسكين، ما زلت كما كنت من قبل،لم أزدد عقلا” ، ألم يدفع به كلّ ذلك إلى الإعلان أو الإعتراف بهذه الحقيقة المرّة..؟ ألا وهي عجزه عن المعرفة والإدراك الحقيقين، وإستيعاب حقيقة حياته، وكنه وجوده،وجوهره ، وعدم قدرته، أو قصوره على مواجهة أو مجابهة ما يحدث فى عالمه الشّاحب الكئيب من إضطرابات من كلّ نوع..؟حتى بلغ به الأمر أن أبرم عقدا وباع نفسه للشيطان ..سامحك الله يا يوهان غوته..!.
المشكلة فى الواقع ليست مشكلة فاوست وحده، وإنما هي مشكلة كلّ إنسان على وجه البسيطة ، وتلك هي حال الدنيا ، وذلك هوحال صندوقها العجيب الذي تدفعه، وتتقاذفه الرّياح، وتلعب به التوابع ، وهبوب الأعاصير، ولا يجد هذا الإنسان المسكين مفرّا، ولا مناصا ،ولا مهربا، ولا ملاذا ،ولا منفذا له من قدره المحتوم سوى الرّضوخ للأمر الواقع ، وتبنّي هذا الواقع حلوه ومرّه، وخيره وشرّه ، وآماله، وآلامه، ونعيمه، وشقائه، وتخوّفاته، وتوجّساته،وهدوئه، وقلقه.
_______
_______
*كاتب وباحث ومترجم من المغرب يعيش فى إسبانيا.عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم،(كولومبيا).