غـارســان: القراءة التاريخية لألف ليلة وليلة


إدريس الخضراوي

شكل كتاب ألف ليلة وليلة موضوعا لكثير من الأبحاث والدراسات التي توسلت بمناهج وأدوات ومفاهيم تنتمي إلى مرجعيات مختلفة، سعيا إلى فهمه وإنتاج المعرفة بالقضايا المختلفة التاريخية والأدبية والفكرية والجمالية التي يطرحها. ورغم تعدد هذه الجهود وتنوعها، واستفادتها من التطورات الهائلة التي عرفتها العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكذلك نظريات الأدب والنقد الأدبي خلال النصف الثاني من القرن الماضي، فإن ذلك كله لم يكن كافيا لتجاوز الأسئلة التي لم يكفّ هذا النص عن طرحها على الباحثين والدارسين والمؤرخين، ومنها الأسئلة التي تتعلق بصعوبة تحديد النص الأول لألف ليلة وليلة الذي تفرعت منه صياغات متعددة عبر الزمن تحديدا حاسما. وفي هذا السياق يندرج الكتاب الموسوعي من أجل قراءة تاريخية لألف ليلة وليلة للمؤرخ الفرنسي جون كلود غارسان الصادر حديثا ضمن منشورات سندباد 2013 في 805 ص من القطع الكبير.

تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه يخوّل القارئ التعرّف على مساهمة القراءة التاريخية في تسليط الضوء على الموضوع الأدبي متمثلا في كتاب ألف ليلة وليلة، وبمنأى عن المقاربات الاختزالية التي لا ترى ثمة جدوى في التعامل مع هذا الموضوع باستحضار السياق الثقافي والتاريخي الذي يحيط به. ومن اللافت أن مؤلف هذا الكتاب المؤرخ جون كلود غارسان، الباحث في تاريخ الشرق الأوسط خلال العصر الوسيط الإسلامي يتميز بمعرفة عميقة بالعالم الإسلامي وبالثقافة العربية وبالمرويات والحكايات السردية القديمة، إذ سبق أن قدم عملا متميزا حول سيرة الظاهر بيبرس2 تضمن عددا من الأبحاث والدراسات التي تتقصى في جوانب مختلفة من هذا النص. وفي هذا الكتاب يخوض الباحث في مسألة التاريخ لنص الليالي انطلاقا من طبعة بولاق 1835 رغم أن التأريخ لهذا النص عمل ينطوي على كثير من الصعوبة والتعقيد لتعدد نسخه المطبوعة والمترجمة. فهو يتطلب الاهتمام بالتفاصيل والسياقات المختلفة والعناصر التي من شأنها المساعدة على توثيق حكاياته وقصصه. إن هذا المنظور المنهجي الذي يستند إليه المؤرخ جون كلود غارسان لا يجعل من الليالي مصدرا للتاريخ، بل يحدث قلبا في المنظور يغدو من خلاله الليالي موضوعا تاريخيا، تماما كما يفعل المؤرخ عندما يتناول بالتحليل حدثا معينا. 
ويمكن القول انطلاقا من مقدمة الكتاب أن المؤلف يبدو عارفا بالنصوص وبخبايا مصاحبتها، وبما تتطلبه من جهد في الحصر والاستقصاء، قادرا على أن يمسك من خلالها بالعناصر التي تسعف على إعطائها دلالتها وبعدها التاريخيين. والمقصود ها هنا كتب المناقب والتصوف والطبقات وغيرها من الموضوعات التي يتعين على المؤرخ أن يأخذ بعين الاعتبار مساراتها وتحولاتها. وعندما يتعلق الأمر بكتاب الليالي، فإن الاشتغال لا يقتصر فقط على قصص وحكايات تنطوي على أهداف ومقاصد يتعين بناء المعرفة بها، وإنما يتعين على المؤرخ كذلك أن يتساءل عن العلاقة التي يمكن أن تقيمها حكاية بحكاية أو حكايات أخرى، وكذلك الكيفية التي تتموقع بها ضمن الكل. وبما أن هذا الكل ليس من وضع المؤرخ، فإن هذا يشكل سببا كافيا للابتعاد عن الأجوبة النهائية والمكتملة والجاهزة. ولذلك فإذا كان من خاصية تتميز بها هذه المقاربة، فهي تتمثل في اقتراح تاريخ متماسك لليالي، وهو عمل لم يتم الخوض فيه إلى اليوم كما يرى المؤلف. 

عندما يتساءل أندري مايكل في نص المقدمة التي خصّ بها هذا الكتاب، عما إذا كان بمقدور المؤرخ أن يتناول موضوعا كالأدب، فإنه يلمع بذلك إلى أن المؤرخ جون كلود غارسان يمثل نموذجا للباحث الذي يشتغل على الأدب ليس من موقع الوعي المتماهي مع الأفكار والمقولات المنجزة، وإنما من موقع جديد ومستقل يتناول كتاب الليالي وكيفية إدراكه تناولا منتجا. لذلك ينطلق غارسان ها هنا من تصور خاص للتاريخ، خصوصا تاريخ الأفكار، وذلك بهدف التقصي في حياة نص هو أجدر بأن يكون في صدارة المشهد، وأن يعاد بناء المعرفة بتاريخه ومناقشة الأطروحات المتداولة بصدده، وذلك بعيدا عن ادعاء القدرة على تقديم أجوبة نهائية وشاملة حول نص يتميز تاريخه بكثير من التعقيد والتشابك. ويؤكد غارسان أن مقاربته التاريخية ليست عملا يتماهى بالتحليل الأدبي أو تاريخ الأدب أو دراسة الأدب الشعبي، فالمؤرخ عندما ينطلق من نفس الفرضيات التي ينطلق منها دارس الأدب، فإنه ينأى بذلك عن خصوصية مقاربته التاريخية.

وبما أن المؤلف يواجه نصا يتميز بكثير من الاختلاف الذي يسم قصصه من طبعة إلى أخرى، والتمنع عن الإذعان لسلطة من قاموا بتنقيحه وتصحيحه وتشذيبه، فإن هاجس الإضافة إلى المجهودات السابقة التي قام بها المستشرقون، اقتضت أن تتبأر القراءة التاريخية على طبعة بعينها هي التي صدرت عن منشورات بولاق بالقاهرة سنة1835 في جزئين، وتضمنت قدرا معتبرا من الحكايات الجديدة. ويرى غارسان أن الاشتغال على هذه الطبعة لا يعنى أنها الأولى، إذ ثمة كتاب عن الليالي صدر خلال الفترة الممتدة بين 1812 و1814 ضمن منشورات فورت وليامز بكلكتا، وتضمن هذا الكتاب الحكايات والقصص التي شكلت موضوعا للترجمة التي نهض بها أنطوان غالان. أما الطبعة الثانية من الليالي ضمن منشورات فورت ويليامز فقد صدرت خلال الفترة الممتدة من 1839إلى 1842 في أربعة أجزاء انطلاقا من المخطوط المعتمد في طبعة بولاق، مع بعض الإضافات التي يمكن العثور عليها في نسخ أخرى، كل ذلك من أجل الوصول إلى إنتاج نص يمكن أن يستجيب لمنتظرات قرائه. 
غير أن السؤال الذي يمكن طرحه يتمثل في طبعة بولاق نفسها التي تمتعت في المشرق بوضع النواة التي تولدت منها الطبعات والترجمات المتعددة إلى لغات مختلفة، وبالتالي ما يمكن أن تقدمه للباحث، كصورة أولى من إمكانيات الإضافة إلى دلالاته وأبعاده. بهذا المعنى لا يتعلق الأمر بمجرد تصنيع كتاب ثبتته المطبعة على هيئة مجموعة من القصص والحكايات، ذلك أن الرجل الشيخ القاهري المجهول الذي كان خلف إنجاز هذا العمل في بداية القرن الثامن عشر، ويدعوه غارسان “كاتب بولاق” قد استند إلى نموذج يعود تاريخه إلى ثلاثة قرون خلت، وأحدث فيه ما أحدث من التشذيب والتنقيح والإضافة دون التنكر لذلك النموذج. ورغم أن المعلومات غير متوفرة بما يكفي حول هذا الشيخ، فإن غارسان يشيد بالمجهود الذي بذله، حيث يبدو فيه عارفا بالحكايات والقصص، ما أهله لأن يقدم نصا متميزا يعكس قدرة على الاختيار والانتقاء. ولا شك أن الرهان بالنسبة لهذه الطبعة قد تمثل أولا في إعطاء الحكايات والقصص الهوية الأدبية التي ظل الجمهور ينكرها عليها بدعوى أنها أدب من الدرجة الثانية، وتمكينها ثانيا من أبعاد ودلالات أخلاقية من شأنها التأثير في قرائها، والتعامل معها، ثالثا، بوصفها إرثا أدبيا عربيا، يمكن الدفاع عنه بقوة والاستناد إليه في درء التحديات الحضارية التي تتهدد الوجود العربي. 
رغم أن جون كلود غارسان يؤكد الطابع التاريخي لمقاربته، فإن ما يتحصل عليه القارئ يبرز أن الباحث على دراية كبيرة بالحقل الأدبي وبالعلوم المتعلقة به، ويمكن أن يلاحظ القارئ ذلك من خلال المفاهيم النقدية ذات الصلة بنظرية الأدب المعاصرة التي تتردد بقوة بين ثنايا الكتاب، إذ يوظفها المؤلف توظيفا محكما في الدفاع عن الفرضية الأساسية القائلة بوجود نسق أو نظام في طبعة بولاق، وهذا ما يعيد إلى صدارة الاهتمام أسئلة عميقة تتعلق بالمؤلف الأول أو الشيخ الذي عمل على وضع هذا المخطوط. وبهذا المعنى يجترح المؤرخ موقعا لكتابه يوجد على مسافة من الدراسات المختلفة سواء تلك التي نهض بها الأوربيون والتي لم تتجاوز فكرة اعتبار طبعة بولاق ذات خصوبة بالنسبة لعملية تركيب نص يمكن أن يكون ممتعا بالنسبة للقارئ الغربي، أو تلك التي رأت في العمل الذي أنجزه كاتب بولاق مجرد تجميع بسيط لمجموعة من الحكايات.
هوامش:

1 – Jean-Claude Garcin, Pour une lecture historique des mille et une nuits, essais sue l?éditions du boulaq1835, éditions sindbad, paris2013. 
2 – يتعلق الأمر بكتاب: قراءات في سيرة الظاهر بيبرس، تنسيق جون كلود غارسان، منشورات أقواس، باريس2003 (بالفرنسية) الذي تضمن مجموعة من الأبحاث المهداة لأندري مايكل، قدمت خلال الندوة التي احتضنتها جامعة إكس أون بروفانس خلال موسم 1998-1999.
______
*(العلم) المغربية

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *