الرّمزي في الشعر التونسي المعاصر


*محرز ثابت

( ثقافات ) 
إذا كان الشّعر فضاءَ الدالّ و الاستبدال ، فلأنَّه يتيحُ لفعل الخلق الفني إقامةً في هذا الفضاء من خلال الحدث الرّمزيّ، ومن نماذج الإقامة الرّمزيّة إحداث مساحات الإيحاء ¹إذ تنزع الصّور إلى التجرّد عن الحسيّ و بناء أنساق من المعجم الرّمزي تنتج المعنى و تشكّله. ففي ديوان ” كاللّيل استضيء بنجومي ” على سبيل المثال يتشكلّ الرّمز اللّغوي في أنساق من المعجم تحرّر الكلمة من مدى التّسمية إلى فضاء الإيحاء بضرورة الشّعر رمزا للخلق و التّكوين ، و يتشكّل الإيحاء الرّمزي حين تشطُبُ اللّغة محور التّشابه بين الكلمات والأشياء و تمحو قرابتها بما يكون حسًّا و تسمية. و بالرّمز يبني الشّاعرُ على اللّغة لذّةَ الخلق بحثا عن جوهرة المعنى :
الجوهرة
نَحنُ توهَّمنا
أنّا سنفُكُّ مُعَمَّـى القوْلِ و قُلْنا
مهما أغْرَبَ في القولِ
فنحْنُ سنكْشِفُ ، إنْ شبَّهَ ، ما يُضْمِرُهُ
و سنُدْرِكُ ما يُخفيهِ إذا كَـنَّى
فاُنظُرْ كيفَ رجعْنا اليَوْمَ
نُقَلِّبُ أصدافَ اللّفظِ بِحضْرَتِه
مِنْ بعْدِ أن اُرتَحَلَ العُمْرُ
و لم نَظْفَرْ في لَيْلِ القَولِ
بِجَوهَرَةِ المعْنَى . ¹
إذا اعتبرنا هذا النصَّ فضاء من الرّمز و الإيحاء يشطُب مراجع اللّفظ و إحالاتها التّعيينيّة تبيّن لنا أنّ نسقا رمزيّا ينتشر في نسيج النص محوره « جوهرة المعنى » ، و ينشأ عن هذا المحور فضاء معجميّ ينغرس في حقل الخطاب بوصفه لغةً تتوزّع على دائرتين هما : الإغرابُ و التّجلّي، فالكلامُ ظاهر و باطن ، خافٍ وجَلِيٌّ ، و نظفر في سياق المعجم بالسجلاّت التالية : السّجلّ النّحوي (الإضمار/ الحذف) و البلاغي ( التشبيه ، الكناية ، البديع) والدّلالي ( الكشف ، الإغراب ، الإدراك ) و لهذه السّجلاّت موارد رمزيّة هي مجال اللّغة في نظامها التّركيبي و البلاغي . فرمزُ « جوهرة المعنى » أنشأ في نسيج النصّ صورةً رمزيّة هي إيحاءُ « المعنى » . و المعنى الماثل في رمزيّة ” القول ” بحثٌ ينحت في الكيان لذّة الكشف عن سرّ الخلق، في إطار الإرادة الصّوفيّة، و لذّة المعرفة بالمعنى. و قد اختار الشّاعر لإجلاء هذا الإشراق في لذّة الكشف و الخلق رمزية الضّياء الثّاوية في الدّال الرّمزي ” جوهرة ” بما هي إيحاءٌ عن رمز الانكشاف والاحتواء للخلق الكامن فيها. و يتوسّع الانكشاف في حقل الإيحاء الرّمزي إذ يتدرّج العرفان في نسق الأفعال المسنَدة إلى ضمير المتكلّم الجمع ( نحن ، متّصلا و منفصلا) من التوهّم فالتّفكيك فالكشف فالإدراك: ( سنفكّ > سنكشف > سندرك ). و يبدو أنَّ أكثر فضاء الإيحاء الرّمزي في النصّ ينهض على الإشارات التي تُعنَى باللّغة و أعمال القول أي تنهضُ على مفهوم للإبداع و الخلق ينشأ من رحم اللّغة وكيانها. فاللّغة ” الجوهرة ” رمزٌ للوجود و لكن في المعنى. والاشتغال الرّمزيّ نفسُه ينبض به نصّ « كتابة » للشّاعر” فتحي النّصري ” : 

هذه المرّة
أيضا

ما أسرعَ ما
أصابَنا الذّهول

و الحال أنّ ما
حدثَ

هو ما يحدُثُ
دائمًا

حين نستيِقظُ
وحيدينَ في العتمة

و تضيعُ منّا
الجهات ،

فنجدُ النّافذة

حيثُ نتوقّع
الباب

و يلقانا
الحائطُ

حيثُ تُفتَرَضُ
النّافذة

و في متاهات
تلك

يتملّكنا هاجسٌ
وحيد

أنْ نجِدَ
طريقَنا إلى النُّور

و ليسَ أمامَنا
من سبيل

سوى أنْ
نُغامِرَ بأصابعنا.

في متاهاتنا
تلك

أصابعُنا

لا تستضيءُ
بشهوتِها .

 

أصابعُنا،
منبوذةٌ بالعراءْ

قصَبٌ تبتَريه
الرّيحُ ،

يلعَقُ لُعابَ
اللّيلِ

و يكتُبُ
الظّلام .

تنبني القصيدة في فضائها الرّمزيّ على جدليّة النّور/ الظّلام، وتنشأ حيويّة رمز « الكتابة» (بوصفها فعلا للإبداع ) من تجربة الأنا في المكان، فإذا حركة الانتقال في الفضاء الرّمزيّ تفقد وجهتَها و تعلن ضياعَها، فتتداخل الأمكنة ( النافذة/الباب/الحائط) و ينعدم القصد المكانيّ الذي يسمُه الإحساس بالتّيه و الحيرة القائم في رمز “متاهات” ، و يُولّد إيحاءُ الرّمز في بعده الزّماني معجمًَا رمزيّا محوره الانفلات في المكان” العتمة ،الظّلام، الرّيح ” توسيعًا لدلالة” العبور” في المكان الماثلة في الأفعال الوصفيّة ( أن نجدَ ، أن نغامرَ)، فيشتغل الرّمز بذلك في مستوى الصّورة الرّمزيّة على التّماثُل في فعل الخلق و الإبداع بين الوجود و المغامرة ، وهكذا يبني منوال الرّمز في القصيدة صورة ( الكتابة الضّوء) إذ هي إيحاءٌ بصفة الخلق في حدث الكتابة بما هو شطبٌ للظّلام و عبور نحو الإشراق و تضحى الكتابة في هذا المعنى إضاءة للعتمة وإشعاعا يُنيرها. و تأخذُ رمزيّة الإضاءة دلالتَها من رمز الانتشار الذي تجلوه صُوَر الانفتاح في المكان ( الطريق ، الأمام ). و على هذا النّحو تشكّلُ اللّغةُ في القصيدة مجالَ الإيحاء برمزيّة الاستضاءة بوصفها البديل الموضوعي لحدث الكتابة .
_____
* ناقد من تونس

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *