قصة الموسيقى الغربية .. موزارت


*محمد زكريا توفيق

إذا كان يوجد بين الموسيقيين معجزات، فـ “موزارت” (1756-1791)، هو معجزة المعجزات، التي عاشت على هذا الكوكب. موسيقاه تمثل الحضارة الإنسانية بأسمى معانيها. سوف يوضح هذا المقال لماذا؟

تعالوا معي، نستعرض حياة هذا العبقري الفذ، ونحن نستمتع بموسيقاه الملائكية العذبة، التي ليس لها شبيه أو بديل. لا يمكن أن تكون قد أتت، إلا مع وحي السماء. شيء لم يرد علينا أو نسمعه من قبل.
عندما ولد “ولفجانج أمادياس موزارت”، عام 1756، كان والده إماما في مصلى دوق “سالزبورج”. سوف نبدأ قصتنا بمعجزات الطفل وهو صغير، فهي لا تزال تعرض في المتاحف حتى الآن.
عندما كان يحبو، كان يقترب ممن يعزف على آلة الهارب، ثم سرعان ما يهز رأسه ويدندن بأنغامها الموسيقية. كانت تزعجه الأنغام غير المتناسقة والضوضاء. لا يعجبه من لعب الأطفال، إلا اللعب التي بها موسيقى.
هل حب الموسيقى شيء وراثي؟ يقال إن الطفل يستمتع بالموسيقى وهو لا يزال في بطن أمه. فهل كل الأطفال كذلك؟ هل عمل الأب بالموسيقى، أو غناء الأم وهي حامل، له دخل بظهور أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد؟
عندما كان عمر “موزارت” خمس سنوات، بعد إلحاح منه، سمح له بالعزف على الكمان، بعد أن حُمل ووضع على كرسي مرتفع، وضعت آلة الكمان أمامه.
بالرغم من أنه لم يكن قد تدرب على اللحن مسبقا، إلا أنه عزف دوره جيدا. بوجه الطفل البرئ، وعينيه الواسعتين، وأنامله الرقيقة، التي تلعب بالأوتار، لا بد أنه كان يشبه ملائكة الموسيقى التي صورها رسامو القرون الوسطى.
في هذا السن المبكر، قام بتأليف كونشرتو للهارب. قصاصة الورق التي كتب عليها النوته الموسيقية، لا تزال عليها بقع الحبر، التي عادة ما يلطخ بها الأطفال صفحاتهم المدرسية. جودة التأليف الموسيقي للكونشرتو، أسعدت والده سعادة بالغة.
عندما بدأ في أخذ دروس في الموسيقى، كان يذوب ذوبانا في اللحن، يعالج بيديه الصغيرتين أصعب الجمل الموسيقية، بطريقة تدعو للإعجاب. لقد كان الطفل يعيش ويفكر بالموسيقى.
لكنه في الوقت نفسه، كان طفلا رقيقا حساسا، محبا لوالدية ولحياة الأسرة. كان يقول: “بعد الله، يأتـي والدي”. كان يحب، إلى جانب الموسيقى بالطبع، علم الرياضيات.
كان يلعب ويذاكر دروسه مع أخته الصغيرة التي تكبره بخمس سنوات. هي الأخرى كانت طفلة موهوبة. وكان الأب فخورا بهما، كان يعتبرهما من معجزات الله.
عندما بلغ “ولفجانج”، عمر 6 سنوات، قرر الأب عمل رحلة بمصاحبة طفليه المعجزتين. قام بزيارة عدة عواصم أوروبية. استغرقت الرحلة ثلاث سنوات. وكان الطفلان يبهران ويبهجان من يستمع إليهما.
عندما وقف الصغير “موزارت” أمام الامبراطورة الرائعة “ماريا تيريزا”، والدة “ماري أنطوانيت” في قصرها المهول، نسي المراسيم الملكية التي دُرب عليها لهذه المناسبة، واقترب من الإمبراطورة. جلس في حجرها، ووضع ذراعيه حول عنقها، ثم قبلها.
بعد ذلك، ذهبوا إلى مسرح البلاط، وصعد الأب وهو ممسكا بكل يد طفلا، إلى خشبة المسرح. أمامهم تجلس خادمات البلاط الألمانيات الجميلات بملابسهن المميزة.
كان يجلس كذلك، رجال البلاط بسراويلهم الضيقة التي تغطي الركبة، وحبالهم الحريرية المتدلية، ومعاطفهم الساتان المطرزة اللامعة، وشرائط الدانتلا المكشكشة، والبواريك المنمقة والممشطة والمبدرة والمعطرة، والسيوف المطهمة.
في البداية، قام الطفلان بتحية المستمعين. ثم قاما بالعزف فرادى، ثم معا، “دويتو”. إما على آلة الأورغن أو الهارب، أو البيانو أو الكمان. في نهاية العزف، ربت الامبراطور على رأس “ولفجانج” الطفل، قائلا: “أيها الساحر الصغير”.
سمح للطفلين بمرافقة الأميرات الصغيرات في اللعب. كان “ولفجانج” الطفل، مولعا بالأميرة “ماري أنطوانيت”. عندا انزلق وهو يلعب على أرض القصر الملساء اللامعة المدهونة بالشمع، قامت الأميرة بمساعدته على النهوض من الأرض. فقال لها ببراءة الأطفال: “أنتِ طيبة، سوف أتزوجك يوما ما”.
الشاعر جوته، عندما كان عمره 14 سنة، سمع الطفل “موزارت” في فرانكفورت أثناء هذه الرحلة. قال عنه فيما بعد: “لازلت أتذكر الطفل الصغير، وهو يلبس الباروكة ويحمل سيفه”.
في مدينة “هيدلبيرج” جنوب ألمانيا، دهش العمدة من براعة “موزارت” في العزف على آلة الأورغن، إلى الدرجة التي جعلته يأمر بحفر اسمه على الآلة. في فرنسا، استقبل في بلاط قصر “فيرساي”.
هناك، سحر أداء “موزارت” المتنوع، المستمعين. شعر بالاشمئزاز، عندما رفضت، السيدة الأرستقراطية عشيقة لويس الخامس عشر، مدام “بومبادور” تقبيله، تساءل الطفل متعجبا من عجرفتها وقلة ذوقها، قائلا: “ألم تقبلني الملكة نفسها؟”
عنما كان في باريس، نشر أول مؤلفاته في هذه السن المبكرة، (7 سنوات): “أربع سوناتات للهارب والبيانو”. في ذلك الوقت، كانت الموسيقى الأجنبية شائعة جدا في إنجلترا.
قام الطفلان بالعزف أمام الملك والملكة، في قصر “باكنجهام”. وضع الملك نسخة من نوتة موسيقية لـ “باخ” وأخرى لـ “هاندل”، أمام موزارت، فقام بعزفهما بمهارة بالغة.
في لندن، أعلن عن حفل موسيقي، تحييه: “المس موزارت”، 13 سنة، و”المستر موزارت”، 8 سنوات. مع افتتاحيات موسيقية من تأليف الصبي. الملك والملكة، حضرا جزءا من الحفل. سيدات المجتمع كن حاضرات لسماع الطفين المعجزة.
الاهتمام الملكي، جعل كل أنواع الهدايا تنهمر على الطفلين. لعب أطفال، خواتم ذهبية وجواهر، شرائط حريرية، زراير لامعة، أبازيم أحذية، سيوف مطهمة، بواريك، وحتى علب نشوق.
كان الأب حريصا على ألا تفسد، هذه الهدايا، تركيز الطفلين على الموسيقى. فضلا عن أنه كان فقيرا، يريد تدبير مصاريف الرحلة، فكان يحول معظم هذه الهدايا إلى نقود.
وصلوا أمستردام أيام الصوم الكبير للمسيحيين. كانت كل الأنشطة الترفيهية والملاهي مغلقة في ذلك الوقت. لكن، بالرغم من ذلك، صدر إذن خاص، يسمح لهم بإقامة حفل موسيقي. بحجة، كما قيل في البيان، أن: “الموهبة الرائعة لهاتين الطفلين، هي في حد ذاتها تمجيد لعظمة الرب”.
لقد أسهبنا في سرد حياة الطفل “ولفجانج أمادياس موزارت”، بشئ من التطويل، الذي أرجو أن لا يكون مملا، لسبب. لأن حياته فيما بعد، سوف تتباين بشدة، كما سنرى، مع حياته السعيدة الأولى.
عندما كان عمره 12 سنة، دعاه الامبراطور لكي يلحن أوبرا، للعرض في فيينا. جلس “موزارت” لكي يكتب الأوبرا، بينما كان الموسيقيون الكبار ينتفضون غضبا وحسدا. لأنه سمح لطفل صغير لكي ينافسهم في حرفتهم. لذلك، لم تعرض الأوبرا إلا في مدينة “سالزبورج”.
زيارة إيطاليا في ذلك الوقت، هي بمثابة جزء من دراسة كل مؤلف موسيقي. لذلك، كان سرور “موزارت” بالغا، عندما أخبره والده بعزمه السفر إلى أرض الأغاني والفن والجندول، إيطاليا.
هذه المرة، بقيت أخته المعجزة بالمنزل مع والدتها. تخبرنا الخطابات التي كتبها موزارت أثناء الرحلة، كم كان سعيدا عندما رأى عجائب إيطاليا، وجلال الموسيقى التي سمعها. كان يوصي أخته بالعناية بكلبها وعصفورها الكناريا، ويسأل عما إذا كان العصفور لا يزال يغني على نغمة مفتاح (G).
وصلوا إلى روما في أسبوع الأعياد الدينية. في مصلى “سيستين”، استمع إلى القداس الديني العظيم. عندما كان الحبر الأعظم والكرادلة يركعون أمام المذبح.
هذا القداس، كان بالغ القيمة للإيطاليين، لقداسته وأهميته، لم يكن يسمح بكتابة موسيقاه في نوته موسيقية. من يخالف ذلك، كان يعاقب بالطرد من رحمة الكنيسة.
بعد أن سمع “موزارت” القداس مرة واحدة، كتب موسيقاه من الذاكرة. وعندما ذهب للكنيسة للمرة الثانية، كانت النوته الموسيقية في قبعته، لكي يصحح أي خطأ في كتابتها.
في إيطاليا، حصل موزارت على دبلومات وشهادات تقدير في الموسيقى. منحه البابا وسام “المهماز الذهبي”، الذي يمنح للفرسان.
أيام كثيرة مشرقة مرت أثناء سفر موزارت مع والده، وإقامته لحفلات موسيقية في عدة مدن. لحن لمدينة ميلانو، أوبرا “ميلتياديس”. عرضت هناك عام 1770 بنجاح. أخيرا، عادا إلى “سالزبورج”، موطنهما. هنا، قام رئيس الأساقفة، بتوظيف الأب والابن.
كان رئيس الأساقفة، منبهرا بالصغير موزارت. إلا أنه كان منضبطا يدقق في كل شيء، والأجر كان ضئيلا. مما كان يغضب الشاب “ولفجانج”. قبل أن يصل إلى سن العشرين، كان “موزارت” يرجو إعفاءه من هذه الوظيفة، والبحث عن غيرها.
سافر “موزارت” بعض الوقت مع والدته. بينما كانا يقضيان فصل الشتاء في “مانهايم”، قابلا الموسيقي “ويبير”. سمع موزارت ابنته “ألويشيا” وهي تغني.
صوتها الرائع، سيطر عليه سيطرة كاملة. كان مستعدا لترك كل شيء والذهاب مع “ويبير” وابنته إلى إيطاليا. لكن الأبوين تدخلا، لأنه كان صغيرا حتى يربط مستقبله الباهر بأي فتاة. أخذ “موزارت” بنصيحة أبويه، وترك حكاية الحب هذه مؤقتا.
قضى “موزارت” شتاءي 1778 و1779، في باريس. كان يتذكر الحماس الذي قوبل به هنا عندما كان طفلا. إلا أنه الآن أصبح شابا يافعا. وكانت باريس في حمى الصراع بين “جلوك” و”بوتشيني”.
كان “موزارت” مشمئزا من كل شيء هنا. أضف إلى ذلك، فقده لأمه الحبيبة أثناء الشتاء في باريس. مع أحزانه هذه، سمح له والده بالذهاب إلى ميونخ لكي يرى حبيبته “ألويشيا ويبير”، التي كانت تغني هناك.
لكن “ألويشيا” قابلته بفتور. صدمة كبيرة. ثم ذهب إلى آلة البيانو لكي يغني أغنية مطلعها: “ها أنا أترك الفتاة التي لم تعد تحبني”، ثم أخذ طريقه عائدا إلى بلده “سالزبورج”.
كانت الأوبرا الإيطالية، هي الأوبرا السائدة في ألمانيا. عندما كان عمر “موزارت” 24 سنة، بدأ حرفته كمؤلف موسيقى كلاسيكية، بتلحين أوبرا ألمانية. الموضوع، أسطورة يونانية قديمة باسم “أيدومينيو”، ملك كريت.
كان لحن الأوبرا رائعا، لشاب في مقتبل العمر. عمل ناجح بكل المقاييس، مليئ بالهارمني. بعد فترة، قرر الإقامة في فيينا. حيث يتنافس الأمراء على رعاية الموسيقى وإقامة الحفلات وتشجيع حلبات الرقص وعروض الباليه.
هناك تتجمع أيضا كوكبة من المؤلفين الألمان. حقا بينهم تنافس، لكن هذا شيء طبيعي. يوجد أيضا، الامبراطور “جوزيف الثاني”، المحب للأوبرا الإيطالية.
قابل الامبراطور بحفاوة الموسيقي الشاب “موزارت”. قابل هنا أيضا “ويبير” وابنته، بعد أن فقدا أملاكهما، وكانا سعداء بمقابلته. بقي معهما فترة صغيرة من الوقت.
وجد “موزارت”، “كونستانزي”، أقل تفاهة من أختها الكبرى “ألويوشيا”. أعطاها دروسا في الموسيقى، في الوقت نفسه، كتب أغاني حب لأوبرا جديدة.
بطريقة ما، اختلطت الدروس بأغاني الحب والغرام. سرعان ما تحول الحب إلى خطوبة. كانت هناك معارضة شديدة، لكن الزواج تم على أي حال عام 1782.
كان يبغي “موزارت” من الزواج، الحصول على وظيفة لدى الامبراطور، لكنه لم يحصل على الوظيفة، إلا أن الزواج كان سعيدا بالرغم من ذلك.
منزل “موزارت” كان دائما في فيينا. هناك، كان يعمل مدرسا، اعازف بيانو، ومؤلف موسيقي. وكانت زوجته، بمرحها وحكاياتها المسلية، مصدر إلهام لزوجها، بينما كان يكتب ألحانه الموسيقية الميلودي.
لكن لم تكن شؤون المنزل دائما على ما يرام. “كونستانزي” لم تكن قوية. “موزارت” كان بشوشا، مهملا ومسرفا. كان في بعض الأحيان يجد صعوبة في شراء خبز يومه، ليقيم أود زوجته وأطفاله. هذا أذله وكسر كبرياءه.
مما جعل الأمر يزداد سوءا، كانت هناك عصابات ضد موسيقاه، وكان يشعر أنه لا يقدر حق قدره. ذات مرة، بينما كان يتحدث في حفل استقبال في إحدى المدن، قال: “عندما كنت أعزف هناك، شعرت أن من كان يستمع لي، هم الكراسي والمناضد فقط”.
هذا هو الرثاء الحقيقي، لحياة عظيمة، ليس هناك متعة في تسجيل آلامها. لكنه، كان له العديد من المعجبين. كان يتلقى منهم الهدايا الجميلة، مثل الساعات، علب النشوق، والخواتم، وكان يبيعها لتغطية مصاريف البيت، تماما كما كان يفعل والده أثاء رحلته بين المدن الأوروبية وهو صغير لتغطية مصاريف الرحلة.
بالرغم من ذلك، بلغ “موزارت” أوج عبقريته الفنية، عام 1784، عندما لحن أوبرا “زواج فيجارو”. أثناء التدريب، كان أعضاء الفرقة الموسيقية، يصرخون من البهجة، ويتوقفون عن العزف قائلين: “عاش موزارت العظيم”.
جن جنون فيينا بالأوبرا. الامبراطور، كان مضطرا لحزف بعض الفقرات لكي يجعل زمن الأوبرا معقولا. الألحان كانت لكل الرقصات. ومع هذا، كان الأجر ضئيلا للغاية، إلى الدرجة التي جعلته يعود ثانية لإعطاء الدروس الموسيقية.
النص الشعري للأوبرا، يعتبر تكملة لأوبرا “حلاق إشبيلية” لـ “روسيني” التي تدور أحداثها في مدينة إشبيلية بإسبانيا. في مسرحية “حلاق إشبيلية”، الكونت “المافيفا”، تمكن عن طريق خادمه “فيجارو” من التودد والفوز بـ “روزين” والهرب بها من الدكتور الشرير “بارتولو”.
في “زواج فيجارو”، تزوج الكونت من “روزين”، لكن المشكلات كانت مستمرة بسبب سلوكه ومغازلته للنساء. يعود “بارتولو” العجوز، لكي ينتقم من “فيجارو” بسبب المساعدة في إبعاد “روزين” عنه. القصة مليئة بالفكاهة والمفارقات، بها نقد لاذع للمجتمع والسياسة. وقعت أحداثها في يوم واحد.
بعد ذلك، استقبل “موزارت” في براغ استقبالا حافلا، سره كثيرا. قام بزيارة الكونت “ثن”، الذي كان هو وزوجته الكونتيسة من أعز أصدقائه. أوبرا “زواج فيجارو” كانت تعرض على المسارح في ذلك الوقت.
في أحد المرات، ذهب “موزارت” إلى دار الأوبرا، فوقف كل المشاهدين عند دخوله، وقاموا بتحيته بالهتاف: “عاش الأستاذ”. هذا شجعه على كتابة أوبرا لمدينة براغ.
بعد تفكير عميق، قرر تلحين أوبرا بعنوان “دون جيفاني”، أو “دون جوان”. تبين حياة نبلاء أوروبا، في سيرة “جياكومو كازانوفا”، النبيل الإيطالي، الذي كان يتنقل بين المدن، وذاع صيته كزير للنساء ومتهور. يقابل في النهاية مصيرا مروعا.
لحنها بعد وفاة والده. قصة الأوبرا، عبارة عن صراع بين شبح الموت، والدون. ينتصر شبح الموت، ويأخذ الدون إلى الجحيم، تاركا الابن وحيدا. هذا إسقاط على شخصية “موزارت” نفسه، بعد وفاة والده الذي تركه وحيدا.
هي واحده من الأعمال الكبيرة التي تبنت فلسفة الثورة الفرنسية. تدعو إلى تحمل الإنسان مسؤولياته، الناتجة عن حرية الاختيار، حتى لو كان في ذلك هلاكه.
العجيب، أن “موزارت” لم يضع جملة موسيقية واحدة، إلا قبل عرض الأوبرا بشهر واحد.
هناك خارج مدينة براغ، توجد منضدة صخرية في حديقة أحد المنازل. كتب عليها موزارت النوته الموسيقية للأوبرا. بينما كان يلحن الأوبرا، كان يأخذ دوره، من آن لآخر، في ماتش بلياردو.
لم يكتب موسيقى الافتتاحية، إلا في الليلة السابقة للعرض. خلال تلك الليلة، كانت “كونستانزي” زوجته، تحكي له القصص المسلية لكي تبقيه متيقظا. في تمام السابعة صباح اليوم التالي، يوم عرض الأوبرا، أرسلت النوته الموسيقية، لكي تعمل منها النسخ اللازمة للأوركسترا.
عادة، يتدرب المغنون والممثلون والعازفون على الأوبرا قبل عرضها. هذا حدث بالنسبة لأوبرا “زواج فيجارو”، وكان “موزارت” بنفسه، يقوم بتدريبهم. لكن هذا لم يحدث بالنسبة لأوبرا “دون جوفاني”. بالرغم من كونها إحدى روائع الأوبرات العالمية.
عاد “موزارت” بعد ذلك إلى فيينا. قام الأمبراطور، الذي بدأ يهتم بـ “موزارت”، بتعيينه قائد فرقته الدينية. توقف “موزارت” بعد ذلك عن التدريس. لأنه أصبح الآن مشغولا بتأليف الموسيقى لكل الأنواع: أوبرا، رباعية، كونتاتا، قداس، سوناتا، سيمفونية، كونشرتو، سرينادة، أغنية.
يعتبر “موزارت”، أمهر عازف بيانو في عصره. الكل يتحدث عن مدى السهولة التي كانت تتحرك بها أنامله فوق مفاتيح البيانو.
سنة وراء سنة، ظل يؤلف موزارت الأعمال الموسيقية بكل أنواعها بسرعة، كأنه يعلم أنه سوف يحيا حياة قصيرة، يريد أن ينجز فيما تبقى له من عمر، أكبر قدر ممكن من الأعمال الموسيقية.
لم يحن الوقت بعد لإحلال الأوبرا الألمانية مكان الأوبرا الإيطالية، التي كانت سائدة في كل البلاد. لكن الأوبرا الألمانية، كانت تكتسب مشجعين يتزايدون يوما بعد يوم. ويرجع الفضل لـ “موزارت”، فهو مؤسس الأوبرا الألمانية الحقيقي.
ألف “موزارت” 6 رباعيات، خصيصا لـ “بابا هايدن”. وكتب يقول:” أبغي عمل شيء لتكريم أستاذي العظيم هايدن”. قصص كثيرة تقول أنه كان يحب “بابا هايدن” جدا.
ألف “موزارت” 17 سيمفونية. تبين موهبته في التعبير بالموسيقى عن عواطف مختلفة ومتباينة. منها سيمفونية، (E flat major)، يعتقد أنها تحتوي على ذكريات الطفولة.
سيمفونية أخرى، (G minor)، تبين نضاله في هذا العالم. قال الموسيقار “فاجنر” عنها: “يبدو أن موزارت كان ينفث في الآلات الموسيقية، عواطفه الإنسانية”. سيمفونية “جوبيتر”، هي أشهر السيمفونيات كلها.
السيمفونية تبين أن أيام الجوع والكفاح قد ولت. مليئة بالبهجة والانتصارات. ألفها “موزارت” في 15 يوما. كتب “موزارت” أيضا، سرينادات وأغاني جميلة، ولكنها لم تكن مشهورة كأعماله الأخرى.
مع اقتراب عام 1791، بدأ يظهر عليه المرض والإجهاد، لكنه كان يواصل العمل. في هذه السنة، لحن الأوبرا الرائعة، “الناي السحري” للعرض في فيينا. عبارة عن حدوته في قالب أوبرالي. النص الشعري كتبه مدير من فيينا، كان يعاني ضائقة مالية. وكان يرجو ويلح لكي يلحن “موزارت” الأوبرا. وبينما كان “موزارت” يلحن الأوبرا، كان يدعوه إلى بيته، يقدم له الأكل، ويخلق حوله جوا من البهجة والمرح. لكن بعد انتهاء تلحين الأوبرا، دفع له أجرا زهيدا نظير تلحينها، بالرغم من أن الأوبرا بعد عرضها، كانت السبب في ثرائه.
هي قصة من مصر القديمة. ملكة الليل، التي تمثل الجهل والكبت، ناشدت الأمير “تامينو”، انقاذ ابنتها “بامينا” من سلطة الحكيم “ساراسترو”. الحكيم، يمثل العقل والخير، الذي يقوم بتربية “بامينا” على الفضيلة وحب العلم. هذا لا يرضي الأم بالتأكيد.
صائد الطيور، “باباجينو”، تطوع بالمشاركة مع “تامينو” وثلاث صبيان ملائكة، أرسلوا لكي يمهدوا الطريق. صائد الطيور، يمثل المرح الإنساني الفطري.
يمر بتجارب قاسية برفقة “تامينو”، وهو يحاول تحرير “بامينا”. يسعى إلى متع الحياة البرئة، ويقايضها بطيوره. يحمل قفصه ويعزف على الناي في الأزقة وتحت الشرفات.
عندما يصل “تامينو” إلى القلعة، أخذ يعزف على الناي. كل المغريات الممكنة ألقيت في طريقه. لكنه لم يلن، وظل يقاوم. أخيرا، مثل لاختبار الإلهة “إيزيس”، هو و”بامينا” الأميرة.
وضعا في النار، ثم ألقيا في الماء. لكنهما كانا محميان بالناي السحري. خرجا من الاختبار أنقياء متطهران. آخر ظهور لهما، كان في معبد الشمس. بجوار “ساراسترو”، الذي كان يجلس على عرشه. ملكة الليل، تغوص في الأرض مع إختفاء الشر من العالم، أمام شروق شمس الحقيقة الساطع.
الناي السحري، يجذب الطيور والحيوانات، كما كانت تفعل قيثارة “أورفيوس” في الزمن القديم. إلى جانب الموسيقى العذبة الغريبة، تحتوي الأوبرا على أغنيات جميلة. منها “أغنية صائد الطيور”.
كانت هذه الأوبرا مشهورة جدا في فيينا، ولم يمض وقت طويل، حتى أصبحت مشهورة في كل أنحاء أوروبا. بينما كان المشاهدون يتزاحمون أما دور الأوبرا لحجز تذاكرهم، كان “موزارت” يرقد على فراش الموت.
في الشهر الأخير من حياة “موزارت”، جاءه رجل غريب يلبس ملابس رمادية اللون. ظهر على باب منزل “موزارت” ومعه خطاب، يطلب لحن قداس جنائزي.
الشرط هو أن يتم اللحن قبل تاريخ معين. عندما يتم، يكون الدفع. لكن “موزارت”، لم يكن يعلم لمن سيكون اللحن. المرض والحالة النفسية التي كان يمر بها، جعلته يعتقد أن الرسول جاء من العالم الآخر، ليخبره أن لحن القداس الجنائزي (requiem، سيكون لجنازته هو نفسه.
بعد ذلك، عرف أن الذي طلب لحن القداس، هو الكونت “فون والزيج”. موسيقي هاو، كان حزينا لفقد زوجته. وكان ينوي إعادة كتابة القداس ونشره تحت اسمه هو. لذلك أخفى شخصيته.
استغرق موزارت بكل جوارحه في كتابة اللحن. بينما كان يكتب النوته، كان يظهر عليه الإعياء والتعب. وكانت حياته تنسحب من جسده شيئا فشيئا.
قبل وفاته بيوم واحد، طلب من أصدقاء كانوا بجواره، وهو يرقد في الفراش، غناء جزء من القداس، وكان هو يغني معهم. ثم خفت صوته، وأومأ بالإشارة، طالبا تغيير جزء من القداس.
بعد موته، لحن القداس غير المكتمل، ظل ملقى على سريره، بينما العالم كله كان يتحدث عن شهرة أوبرا “الناي السحري”.
يوم الدفن، تلقى جسمان “موزارت” البركة في كنيسة “سانت ستيفين”، ثم حمل خلال عاصفة شديدة إلى مدفن “سانت ماركس”. هناك، منحت فيينا إلى موسيقارها خالد الذكر، قبرا لا يليق إلا بالفقراء المعدمين. بعد مدة، نقل رفاته إلى مدفن جماعي من مدافن الصدقة، لا يعرف اليوم مكانه.
لكن قداسه الجنائزي، كان يعزف في جنازات العظماء الآخرين. بعد مرور 100 سنة على وفاته، أصبح جزءا من الطقوس التذكارية الرائعة. وأصبحت تماثيله توجد في كل أنحاء العالم.
أحد الكرسات الموسيقية، التي تعتبر من كنوز متحف سالزبورج”، بها ألحان موسيقية لعدة مؤلفين. كان الصغير موزارت يعزف ألحانها وهو صغير.
بعض الصفحات، أضاف إليها الأب بخطه عبارة: “اللحن السابق، كان يعزفه ولفجانج، عندما كان عمره 4 سنوات”. هناك لحن آخر في صفحة أخرى، كتب عليها الأب: “عندما كان عمره ست سنوات”.
حياته القصيرة، 35 سنة، كانت سلسلة من البهجة والأسى. لكن إنجازاته، كانت شيئا آخر. فهو يعتبر عبقرية موسيقية ليس لها مثيل. تفوق في كل أنواع الموسيقى الكلاسيكية: الأوبرا والسيمفونية والكونشيرتو والسوناتا، والسيرانة والأنواع الأخرى.
أستاذ في الإلهام الموسيقى، والهارموني، والميلودي. صيغه الموسيقية، جميلة غنية مليئة بالخيال. في البراعة والأصالة والإتقان، يشبه شيكسبير في الأدب.
قيل إن لوحات “رفائيل”، لو كانت تنطق، لغنت بأنغام موزارت وألحانه الحلوة. ليس هناك كلمات يمكن أن تصف موسيقاه الساحرة.
________
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *