*فيصل عبدالحسن
(1)
كنا طيلة الوقت أنا وسلوى زميلتي في العمل نقص القماش الملون، ونصنع منه وردا، كانت أمهر مني في صناعة الورود، وكنت في الحقيقة مجرد مساعد لها.. يأتون بي من قسم آخر في المعرض لأبقى معها ساعتين أو أكثر، بأمر صاحب العمل، لأتعلم منها أسرار مهاراتها، وهي تخترع أشياء عجيبة تذهل المتبضعين، أرى من خلال زجاج المعرض طالبات جامعيات، يبدون مثل باقات ورود ملونة، وتتطلع عيونهن المتلهفة، لرؤية جديدنا من باقات الورود، ومن خلف الزجاج تتطلع وجوه رجال وشباب ومراهقين، وتنبعج أنوفهم على الزجاج، وهم يحاولون معرفة أسرار لمعان ورودنا، التي زودناها بمصابيح صغيرة ملونة حرارية مخفية، تنطفئ وتضيء، حالما تلمسها الأيدي، فتبهر الإبصار بجمال ألوانها.
(2)
في أوقات الفراغ ننظر إلى الساحة الواسعة المزدحمة بالناس، والى العصافير التي تروي ظمأها من النافورة عندما يقل مرور الناس. لم نتكلم كثيرا، فعملها يتطلب دقة كبيرة، وكان حجابها ناصع البياض، وقد أظهر وجهها مدورا، وبدا كما لو كان حوله هالة نور، مما جعل جمال وجهها أخاذا. يتملكني شعور بالحرج كلما اقتربت منها، فجمالها من ذلك النوع الذي يدفع أي شاب للإحجام عن اللغو الفارغ معها، حالما تقع أنظاره عليها، ويحسب لكل كلمة يقولها ألف حساب، لئلا تتوجسه، فيخسر لذة القرب من هذا الكائن الجميل الشفاف.
أما حين تتكلم، فإنها ستتكلم عن صناعة الورود، وعن ألوان خرافية ستتمكن من شرائها لتطلي بها القماش، الذي تصنع منه الزهور. كانت سلوى أكبر مني بثلاث سنوات فقط، لكنها كانت تعاملني كأخت كبيرة، فهي تشعر بالسرور كلما باعت شيئا من باقات ورود معرضنا، وحين تراني صامتا لفترة طويلة، تحدثني وهي تحوك شيئا من الورق الملون أو القماش بأصابعها النحيلة، التي تبدو كأصابع عازفة بيانو: تحدثني عن أخيها المراهق، ومشاكله التي لا تنقطع مع أولاد الجيران، وأمها المريضة، وهي تشعر بالرضا عن نفسها عندما توفر معظم راتبها لشراء الدواء لها، ولمراجعة أطباء جدد أثبتوا مهاراتهم في تشخيص الأمراض وعلاجها، وتتحدث عن مشاريعها الكثيرة، التي لا تستطيع أن تنفذها الآن، لأنها بلا تمويل مالي، ثم تضع المقص الفضي على المنضدة قريبا من أوراق شفافة ملونة، وأخرى صقيلة لامعة، والمكان جميعه يمتلئ بأصص ومزهريات فخارية، وأحواض ورد، وكرات من الكريستال، وبلورات صغيرة جدا تحلل الضوء إلى ألوانه السبعة، وتنظر إلى طيور النافورة التي تلتقط الحبوب من مدورة الطيور في مركز بركة ماء المجمع التسويقي.
(3)
أمي حكت لي يوما حين كنت صغيرا عن ألوان الورود وعطرهن الخاص، التي تملأ صدري كلما ذهبت بصحبتها إلى بيت جدي، وحال توغلنا في بستان جدي الصغير، فقد كان البستان في حقيقة الأمر حديقة صغيرة تقع في مقدمة دار جدي القديمة، ولكن جدي كعادته عندما يضخم الأمور.. فيسميها بستانا، وكان يمضي طيلة يومه في العناية بنباتاتها، ويسميها دائما «بستاني .. حقلي الحبيب»
كانت أمي تقول أن تلك الزهور تنفذ خطة بارعة لاجتذاب أسراب النحل، بألوانها وعطورها، فهي تجتذب تلك الأسراب ليتم تلقيحها بطلع النباتات المذكرة، وهكذا عرفت من أمي أن دليلها على خدعة الزهور الماكرة، التي تدبرها قولها، أنها حالما يتم تلقيحها بحبوب الطلع تفقد أوراقها وألوانها وعطورها، وتتحول إلى كائنات صلعاء، متضخمة قبيحة!! وكأنها لا تمت بصلة لتلك الزهور التي كانت يوما تغري الناظرين بالنظر إليها واستنشاق عطورها، فهي خدعة أودعها الخالق تعالى فيها ليستمر نسلها، ولتكرر سلالات المخلوقات وجودها. أسمع زميلتي في العمل تهمس حالمة، متحدثة عن زهورها غالية الثمن: «أنها تملك لغة خاصة تفهمها القلوب وحدها « وهي تصوغ من هذه اللغة رسائل حب، وإثارة عواطف للنفوس المتبلدة، واستعادة الذكريات القديمة، المنسية. أستمع إليها مسحورا بها وبالكلمات التي تقولها. لا أدري من قال أن نوعية العمل الذي يمارسه الإنسان سيطبع كل تصرف من تصرفاته، وينطبع ما يقوم به على قسمات وجهه، مثل بصمة دائمة. ربما ليس هذا صحيحا دائما، لكنه في حالة سلوى، فهو ينطبق عليها مائة في المائة.
(4)
وزعوا علينا في احد الأيام سندويجات، ملفوفة بورق اكلينكس أبيض، وزجاجات كولا وحلوى، وقالوا هذه الأشياء الموزعة هي بمناسبة خطوبة سلوى، فشعرت بالإحباط، ولم أصدق أن تفارقنا سلوى الرقيقة بهذه السرعة، وهي التي يكاد الكلام أن يخدش بشرة وجهها، وتنال منها كلمة زائدة تسمعها من هذا أو ذاك، وتجعلها تغض بصرها، والدم يكاد يتفجر من وجنتيها خجلا، هكذا بسرعة، تفارقنا لتتزوج وتعيش مع زوجها في مدينة أخرى كما سمعت من زميلاتها في العمل، فلا أراها بعد ذلك، وحرصت بعد أن سمعت الخبر بأيام أن أسترق النظر لأصبعها لأرى خاتم الخطوبة الذهبي، الذي كانت تخفيه بخجل، ولم أسمع أنها تطرقت لموضوع خطبتها، فقط حين هنأتها بالخطوبة، قالت متنهدة: إن شاء الله نفرح بك قريبا! فضحكت وقلت لها وصوتي يمتلىء باليأس: من أنا ؟! هذا حلم بعيد !
قالت بصوتها الناعس، وهي تواري عينيها خجلا: لماذا؟ ألف وحدة تتمناك خطيبا لها !
« فضحكت بصوت عال لأوضح لها خطأ تصورها، وقلت موضحا: ومن أين أتي للخطيبة والتي ستصير زوجتي بثمن الشقة، والذهب، والأثاث، والأشياء الإضافية التي ستطلبها العروس، وأهل العروس ؟! علي أن أبقى أجمع المال حتى يغدو شعر رأسي كالفضة!!
(وأراد أن يقول لها: وأن يكون كرشي كبرميل الطرشي! لكنه أحجم عن قول ذلك متذكرا: كرش خطيبها الضخم الذي رآه خطفا، وهي معه في سوق الذهب !! ).
فأكمل: حتى أصير صالحا للاستعمال كخطيب وعريس بعد ذلك !! ابتسمت، ثم قهقهت ضاحكة بعد ذلك، وكأنما شعرت أنها بالغت في مجاراتي في سخريتي، فغضت طرفها، ويبدو أنها فهمت معنى الفراغات المقصودة بين السطور التي قلتها، فظللت وجهها غمامة حزن شفيف، لا يكاد أحد أن يشعره، لكنني شعرت به وعرفت في ذلك اليوم أنها حزينة جدا، لكنني لم أعرف لماذا ؟!
(5)
وبعد أيام قليلة، اختفت سلوى من الظهور في المعرض، وسمعنا أنها وخطيبها يستعدان للزواج ولقضاء شهر العسل في دولة مجاورة، وتم تكليفي بأداء عملها، فأخذت أصنع باقات الورود كما تعلمت منها، لكنني طوال الشهور التالية لم أستطع أن أضع فيها ذلك التألق الغريب، الذي كانت سلوى تضعه فيها، كانت تضع جزءا من روحها في كل باقة، وكنت أستطيع أن أشم عطرها الخاص في كل زهرة تمر عليها أناملها، أما أنا فقد كنت أقوم بعملي بآلية وهدوء، وصبر، وأشعر بأن باقات زهوري تعاني من شيء ما، من حزن ما، من مرض ما، بالرغم من أن هذه الجمادات لا تمرض، ولا تعرف الحزن مثلنا، وليس لها مشاعر، ومع ذلك فهي تبدو لي ذابلة، مهما فعلت لها، ومهما بالغت في دقتي في العمل، وبالرغم من أنني استخدم ذات الطرق والمواد، التي كانت وما زالت تستخدم في المشغل لصنعها. تذكرت سلوى، وأنا أقوم بعملي الروتيني اليومي، بتشكيل باقات الورد.. سلوى التي انتهى شهر عسلها منذ شهور كثيرة، وأنها كما سمعت من زميلاتها السابقات سعيدة بزواجها وحياتها الجديدة، وزارتنا بعد ذلك في المشغل وكانت حاملا، وقد فقدت كل ذلك الجمال الذي كنت أظنها تنفرد به، وتذكرت حكاية أمي عن الزهور التي تذبل من أجل حياة جديدة، واختفت بعد ذلك سلوى ولم نعد نعرف أخبارها، لكنني كنت كل يوم تقريبا أتذكرها بهيئتها قبل الزواج، كلما رأيت عصافير النافورة بين الفينة والأخرى، وهي تشرب الماء، أو تلتقط الحبوب من مدورة الطيور، وسط النافورة، وأنا أغرق في فوضى باقات زهوري التي لا تبتسم لأحد.
________
*(نزوى)