*أمير تاج السر
ذكرت من قبل في إحدى مقالاتي، أن المبدع في أي من مجالات الإبداع هو بالضرورة كائن بشري، يعيش بين الناس ويستقي إبداعه من المحيط الذي يتنقل فيه. قد يعيش في بيت صغير، في زقاق ضيق أو حارة، وقد يعيش في قصر متسع، يكتظ بالترف، لكن تظل لغة الاحتكاك لغة مطلوبة، لا يمكن لأي عمل إبداعي أن يتكون في الذهن ما لم توجد.
أما العزلة فهي مرحلة تالية، تأتي حين ينفرد المبدع بنصه مستدعيا خبراته الخارجية، التي تأتي غالبا دون أي عناء.
ورغم أن الخيال يلعب دورا كبيرا في كتابة الأعمال الإبداعية، فإن الخيال نفسه لا بد له من جذع يتسلقه من أجل أن يحلق، ولا بد له من شرارة توقده، وتلك الشرارة هي الخبرة الحياتية للمبدع دون شك.
ولأن الكتابة نفسها رغم أنها مهنة تشبه كثيرا من المهن من ناحية الجهد والوقت المستهلك في أدائها، فإن عائدها خاصة في بلادنا العربية لا يمكن أن يرتقي لعائد مهنة بأي شكل.
فالناس يتمزقون ويبحثون وينحتون ويكتبون، ويسعون لنشر ما أنتجوه بشتى الحيل، وفي النهاية إما عائد يعادل وجبة عشاء في مطعم متوسط، على سبيل المثال، أو لا عائد على الإطلاق، ولا غرابة إذن من سمة الإحباط التي لازمت وتلازم الإبداع العربي، في أي من مراحله. وحتى في عهد الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين كانت القراءة زخما مدهشا، ووسيلة للترفيه، لا تنافسها أي وسيلة أخرى.
وما زلت أذكر فترة السبعينيات، حين تعلمنا القراءة، كانت البيوت بمختلف أحجامها، ومختلف طبقات سكانها، تبرز في غرفة الضيوف مكتبة ليست أنيقة ولا مغبرة، ولا تحوي مجلدات أنيقة للفرجة، ولكن كتبا ممزقة الأغلفة وباهتة الأوراق، وتستطيع أن تتخيل العيون التي قرأتها والأذهان التي استوعبتها بسهولة شديدة، على عكس مكتبات البيوت في هذه الأيام التي لن تجد فيها سوى كتب أنيقة وناعمة، أزعم أنها امتلكت للزينة ليس إلا.
وأذكر أيضا أن والدي كان يخصص مبلغا من راتبه كل شهر، يودعه عند صاحب مكتبة اسمه رفعت في مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، وذلك لتزويدنا بكتاب جديد كل أسبوع.
كان رفعت يأتي عصر كل ثلاثاء، راكبا دراجة نارية من ماركة فيسبا القديمة، كنا نستطيع تمييز محركها حتى وهي بعيدة عن البيت، لا يطرق الباب لكنه يلقي بالكتاب الأسبوعي من أعلى السور، وكنا نقف قلقين ومنتظرين وربما نتقاتل من أجل أن يحظى أحدنا بفرصة قراءته قبل الآخرين.
أردت أن أقول إن المبدع من أجل أن يعيش لا بد له من عمل، وهذا العمل رغم أنه لكسب الرزق أولا، فإن له تأثيرا كبيرا في حياة المبدع، وسرعان ما سنكتشف أن كل صاحب مهنة كتب رواية أو قصة لا بد تسربت أشياء من خصوصيات تلك المهنة إلى كتابته، وأولئك الذين يتعاملون مع الناس مباشرة بالتأكيد استلفوا شخوصا من عملائهم، عدلوا في ملامحهم أو سلوكهم، بلمسات الخيال، ووظفوهم في نصوص ثرية.
هذا لا ينطبق على كتابة نصوص معاصرة فقط، ولكن حتى النصوص التاريخية، التي توغل في الماضي، لجر بعضه إلى المستقبل، حيث يمكن أن نعثر على شخصية معاصرة، زرعت بخصوصيتها في ذلك النص البعيد، وأصبحت جزءا من نسيجه.
المهنة مهما كانت صارمة أو ذات تقاليد بعيدة كل البعد عن الإبداع، فإن شوكتها تكسر بحنكة على يد مبدع خلاق، ويأتي القارئ بعد ذلك ليستغرب أو يخمن مهنة الكاتب، مما قرأه في نصه.
وهنا أستطيع أن أقول إن القارئ الذي يود الاقتراب من الكاتب لا بد أن يقرأ تلك الأعمال التي فيها شذرات من سيرته، فهي مؤكد نصوص حقيقية.
ولعل من المهن التي تمتلئ بالغرائب، وتملك إيحاءات النصوص، وتدعم الإبداع بلا جدال، مهن مثل: القضاء والطب وسلك الشرطة والنيابة، والتدريس، وحتى مهن ليست مرموقة مثل النجارة والحدادة، والعمل في تجارة الشنطة وغيرها.
أي باختصار، معظم تلك المهن التي تملك امتياز أن تردم شخوصا بلا حصر أمام الكاتب، وبالتالي تردم وجوها متنوعة، وسلوكا متنوعا، ودروبا ممهدة يستطيع الخيال أن يسلكها وهو مغمض العينين.
لا أحد يصف مرضا حادا أو مزمنا أو وباء، بقدر كبير من الاحترافية، إلا إذا كان طبيبا أو يعمل في مهنة مجاورة للطب مثل التمريض.
لا أحد يتحدث عن الجريمة وتركيبها وتفكيكها وسلوك المتهم والشهود في محكمة، بطريقة فنية محكمة، إلا إذا كان قاضيا أو محاميا أو محققا نيابيا، شاء قدره أن يصبح كاتبا، وأولئك الذين كتبوا في هذين المجالين، من دون أن يكونوا جزءا منهما، نجح بعضهم بينما بقيت ثغرات في كتابة البعض الآخر، كانت ستسد حتما، لو اكتملت المعرفة.
وقد قرأت مرة رواية كتبها عامل نسيج مثقف ومحب للقراءة والكتابة، وكانت صادقة تماما في وصف جو البؤس الذي يعيشه مثل أولئك العمال، وجو العمل نفسه، وتستطيع أن ترى وأنت تقرأ كيف تتحول الخيوط القطنية إلى ألبسة، ذلك أن العامل الكاتب، كان جزءا من تلك الصناعة.
والذي يقرأ لتوفيق الحكيم الذي أعده من أبرع الأصوات التي ظهرت في الرواية العربية، لن ينسى رواية مثل “يوميات نائب في الأرياف”، وكيف أن المحقق كان يبدع وهو يتقصى الجريمة في ريف لم يكن ليتوقع أن يكتب هكذا ذات يوم.
من تجربتي الشخصية، أتذكر رواية سيرية لي اسمها “قلم زينب”، كتبتها من إيحاء المهنة، وعن شخصية لم أكن لأصادفها لو لم أكن أعمل في مهنتي هذه. نعم شخصية إدريس علي، النصاب المقتحم، شخصية موجودة بالطبع وفي أي مجتمع، لكن وجودها في محيط الطب والعلاج، ونسجها لخيوط الاحتيال بهذه الخصوصية، كانت من المحطات الأليمة لي وكان لا بد من كتابتها ذات يوم، وأعد “قلم زينب” رغم أن قراء كثيرين ربما لا يعرفونها ولم يسمعوا بها، مرآة حقيقية وصادقة لكتابتي الشخصية.
إذن المهنة للكاتب في البلاد العربية، رغم تعطيلها للمشروع الإبداعي في كثير من الأحيان بفرض التزامات بلا حصر، و”أكلها” للوقت اللازم للكتابة، فإن فوائدها كثيرة جدا للذين يريدون الاستمرار، هي وقود لا بد منه من أجل أن تنطلق الجمل الكتابية، وتربة خصبة للخيال، ينمو منها ويحلق بعيدا.
________
*روائي من السودان (الجزيرة)