*ممدوح الشيخ
«الماتروشكا» دمية روسية ملونة بألوان زاهية، تحتوي داخلها عدة دمى أخرى بالشكل نفسه بأحجام متناقصة، وهي في تقديري تعبير يوجز، دون إخلال، معالم مشروع الناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي الذي هو محاكاة مكتوبة للماتروشكا، وهي بدورها تدريب على لعبة «الأقنعة» التي يمارسها الغذامي، وهي لعبة تشيع في الثقافات المشرقية حتى تكاد تكون قطاعا عرضيا في هذه الثقافات!
قبل فتح الدمية:
قبل فتح الماتروشكا الغذامية نقف وقفة إجمالية أمام مشروعه. وما إخال الدكتور الغذامي إلا فاسحا صدره للرأي الآخر و«النص المضاد»، وهو الحداثي بامتياز، والمنافح عن «ثقافة الأسئلة»!
ومن مفاتيح مشروع الغذامي ما أسميه «وحدة الزمن الثقافي الكوني»، فهناك توقيت ثقافي (معرفي) واحد، وكل من يسير وفقا لـ«توقيت آخر» فهو متخلف. يقول الغذامي ردا على سؤال عن تنكره للحداثة: «أنا لم أقل إنني لست حداثيا، بمعنى التنكر لشيء فعلته، إنما أقول إن التحول المعرفي الثقافي العالمي حول الثقافة الإنسانية كلها من مرحلة الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة، الذي يظل حداثيا إلى الآن، أعتبره رجعيا ومتخلفا». ومعيار التخلف والمواكبة هنا صدى لمقولة «المركزية الثقافية الغربية»، وهي مقولة خلافية في الشرق والغرب معا.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضا، تباين كبير في تلقي النقاد لهذا المشروع، إذ «أكد فريق أنه بدأ بالنقد الألسني وانتهى إلى النقد الثقافي، وقال ثانٍ إنه بدأ بالنقد الثقافي وانتهى إليه، وأقر ثالث بأن ما أنجز أقرب ما يكون إلى النقد المواضيعي». وقد وُلد الغذامي ناقدا بكتاب «الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية.. قراءة نقدية لنموذج معاصر».
وفي كتابه بدأ الغذامي مسارا طويلا حاول فيه إيجاد أوجه مشابهة بين نظريات نقدية غربية حديثة ونتاجات نقدية عربية سابقة لتوطين هذه المناهج النقدية، دون إشارة (وطبعا دون اكتراث) إلى ما تحمله من أفكار مسبقة تتجاوز حدود المجالين اللغوي والنقدي. والغذامي مثلا تعامل مع «التفكيكية» متغافلا امتداداتها المعرفية، وبحث عن مقابل عربي لها أو لبعض مفرداتها. فمثلا يتوقف عمر زرقاوي مع مصطلح «الأثر» التفكيكي الذي تناوله، وخصه بإسهاب يعبر عن الاضطراب المفاهيمي، «فهو تارة بديل للإشارة لدى دي سوسير، وتارة أخرى التشكيل الناتج عن الكتابة، وهو تارة ثالثة لغز غير قابل للتحجيم.. وهو فيما يحسبه الناقد سحر البيان». وهناك بون شاسع «بين دلالة تلك المصطلحات في أرض النشأة وتلك البدائل التي قدمها الناقد».
ومؤسس التفكيكية جاك دريدا صب غضبه على زعم البنيويين طموحهم لاتباع المنهج العلمي، فالعلم عنده – كالدين والفلسفة الميتافيزيقية – يقيم نظامه على ما يسميه «الحضور»، ومعناه التسليم بوجود نظام خارج اللغة يبرر الإحالة إلى الحقائق أو الحقيقة. والفلسفة الغربية تحاول: «منذ أفلاطون تقديم أو افتراض وجود شيء يسمى الحقيقة أو الحقيقة السامية المتميزة» أو ما يسميه هو «المدلول المتعالي»، أي المعنى الذي يتعالى على (أو يتجاوز) نطاق الحواس. ويمكن في رأيه إدراك ذلك عبر كيانات ميتافيزيقية احتلت في كل المذاهب الفلسفية، مثل: الصورة، المبدأ الأول، الأزل، الغاية، الهيولي، الرب.
فالتفكيكية ليست مجرد «منهج» نقدي، بل رؤية كلية لديها موقف من «الغيب»!
ويتساءل عمر زرقاوي عن مشروعية الجمع بين اتجاه حداثي أسس لمقولة «النسق المغلق» (البنيوية)، واتجاهين من اتجاهات ما بعد الحداثة الداعية لتقويض النسق (السيميائية والتفكيكية)، ألم يقع في التلفيق؟ ولا يعني هذا أن مزج المناهج مرفوض؛ فالمرفوض هو مزج المتناقضات، وكرر ذلك عندما مزج النقد الألسني وما سماه مفهومات عربية عند ابن جني والجرجاني والقرطاجني.
فهل الجمع هنا ممكن دون تلفيق؟
أما جهده التطبيقي، فاتسم بالانطباعية والانتقائية، فالناقد حلم بالموضوعية فسقط في الانطباعية، فتحليله للنصوص لا يكاد يجاوز حدود الوصف والانطباع. وثنائية “الخطيئة والتكفير” نتيجة ثنائيات وبنى صغرى هي في حقيقتها ليست نتاج علاقات النص الداخلية، بل بنت ثقافة الناقد الدينية، فهي «ليست بنيوية ولا سيميولوجية ولا تفكيكية، وإنما هي فكرة أخلاقية ودينية».
ولغة الخطاب النقدي الغذامي في كتابه الأول ميلودرامية عبرت من «لغة النقد العلمية المحكمة إلى لغة الإبداع الطفولية المداعبة، فكما حجب نص الناقد نص الشاعر حجبت لغة الناقد لغة النص الأصلية على هدي حجب التلمود للتوراة»، وحدث هذا تحت شعار مواكبة «اتجاهات العصر».
وتقديري أن الكتاب التالي في الأهمية هو «النقد الثقافي: مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافة العربية». ويهدف إلى كشف النسق المضمر في النصوص الأدبية التي تشكل بنية الثقافة السائدة. ودور النقد الثقافي تعرية مضامين هذه الثقافة، وكشف تأثيراتها الاجتماعية التي ترسخ هيمنتها ثم تعمم هذه الهيمنة عبر وسائل الإنتاج الثقافي والاجتماعي المختلفة. وبهذا المعنى، فإن هذه النصوص تصنع بنية ثقافية تقوم بتشكيل منظومة القيم عبر الزمن فتخلق (عمدا أو عرضا) أنظمة معرفية تهيمن على السياسة والاقتصاد والتاريخ. وهي في نهاية الشوط، تتحكم في إنتاج الثقافة. والغذامي في كتابه نظر من خلالها إلى الثقافة العربية.
وما استنتجه الغذامي أن الأنساق المضمرة في الشعر العربي أنتجت مفاهيم «الفحولة الشعرية» التي من سماتها التعالي وعشق الذات وهي بدورها أنتجت الطغيان السياسي عبر العصور.
ويؤكد الغذامي هذا الحكم الكاسح بقوله إن شخصية الفرد المتوحد: «فحل الفحول ذو الأنا المتضخمة النافية للآخرين من جهة ثانية، هي من السمات المترسخة في الخطاب الشعري، ومنه تسربت إلى الخطابات الأخرى، ومن ثم صارت نموذجا سلوكيا ثقافيا.. مما ربى صورة الطاغية الأوحد (فحل الفحول)».
ولا أجد تعليقا أكثر تأدبا على هذا التصور الذي يفرضه الغذامي على الوجود من قول الدكتور يوسف جابر إن الغذامي كان أولى به أن يكون «أكثر شفافية في إطلاق أحكام بريئة وإيجابية، من شأنها تطبع دراسته بالحيادية والعلمية»، منتهيا إلى أن استنتاجه «فيه كثير من العنت والبعد عن الموضوعية».
وفي كتابه «تشريح النص»، يربط الغذامي السابق باللاحق عبر مصطلح «التشريح». ويبدو أن الناقد لا يبحث عن بنية تحكم إبداع شاعر، بل يسعى للقبض على نسق عام يحكم الشعر العربي الحديث، فبعد أن يصل إلى تعيين شفرة معينة تحكم قصيدة كل شاعر، يحاول إيجاد النسق العام كمحصلة نهائية لاجتماع تلك الشفرات. وقد حلم بالبنيوية فوقع في الانطباعية، وبالتشريحية (كما يسميها) فسقط في الاتجاه الأسلوبي البنيوي!!
ويرى زرقاوي أن كتاب «الموقف من الحداثة» مراجعة شاملة للنقد الأدبي في الوسط الثقافي آنذاك، وفيه حديث عن فكرة موت المؤلف التي تنسب لرولان بارت، وإذ حاول الناقد تأصيل المقولة في التراث العربي، عاد بها إلى بيت المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
والغذامي هنا يبحث عن شرعية للحداثة بالعودة للتراث والتنقيب فيه عما يؤيدها. وفكرة «موت المؤلف» يرجع أصلها للمخاض الفلسفي الغربي، وبالتحديد لمقولتي «موت الإله» عند فريدريك نيتشه، و«موت الإنسان» عند ميشال فوكو، و«موت الإله» يعني نهاية «الحقيقة المطلقة»، وموت الإنسان يعني سيطرة البنية على الإنسان. وتأسيسا على ذلك، فلا لقاء بين مقولة «موت المؤلف» وبيت المتنبي. وربط الناقد بين حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) وثنائية «الحضور والغياب» الدريدية، باعثا من جديد للتساؤل عن الصلة بينهما، فالثنائية المذكورة بنت بارة ونتاج طبيعي لعلاقة التلمود بالتوراة في الفكر اليهودي، التلمود كنص ثان، والتوراة كنص أصلي!
وفي «المشاكلة والاختلاف» يركز الغذامي على «البحث عن شرعية للحداثة»، بتركيز جهوده على قراءة التراث العربي النقدي والبلاغي. وبقدر ما أعجب الناقد بعبد القاهر الجرجاني، لأنه الناقد الحداثي بامتياز، بنيوي تارة وتفكيكي تارة أخرى، يصفه بالتناقض لجعله اللفظ تابعا للمعنى. ويتوقف عمر زرقاوي أمام ما يرى كاتب هذه السطور أنه واحد من أهم مفاتيح المشروع الغذامي، وهو البدء من «أحكام كلية مسبقة»، يجري البحث عما يمكن أن يكون «مقدمات» تلزم عنها هذه الأحكام، بوصفها «نتائج» لازمة حتما، وغالبا تكون المقدمات ظواهر جزئية، بينما النتائج (التي هي فعليا) «أحكام مسبقة» مطلقة!
يقول زرقاوي إنه «في مشروع النقد الثقافي.. ينقد الطاغية ويحمل الشعر العربي الضائقة الحضارية، فأسس لنا طاغية جديدا سمي بالنقد الثقافي، فنقد الدغمائيات لا يولد إلا دغمائيات بديلة»!
والآن لنفتح معا دمى الماتروشكا.
الدمية الأولى
كان مشوار الغذامي دائما ثلاثي الأضلاع: «الغذامي – الفكرة – الغاضبون من الفكرة». ولنتأمل ما يقوله عن علاقته بفكرة «الجمهور». يقول الغذامي في حوار معه إنه لا يبحث «عن الجمهور». وفي إجابته عن السؤال التالي مباشرة قال: «الهجوم المحلي مفيد جدا للفكر والكتاب على مستوى التسويق والإشاعة.. بل عندما أصدر كتابا، ولا يحدث حوله ضجيج أعد أنني خسرت».
فهل الإجابتان المتتاليتان متناقضتان؟
الدمية الثانية
هي دمية «المفكر الزئبقي»، وفتح لي هذه الدمية الدكتور حسن حنفي عندما أطلق اللقب على نفسه ليقدم خدمة جليلة لمن يجتهد في فك شفرة مشاريع كثيرة مشابهة.
والدكتور الغذامي على امتداد مشواره حافظ مرات على هذه الزئبقية في مفاصل كان تخليه فيها عنها يمكن أن يكون ذا تكلفة كبيرة، فقد قبل – راضيا – أن يوصف بـ«الحداثي» و«الليبرالي»، وغيرها من أوصاف تضعه تحت مظلة مرجعية ثقافية واضحة المعالم، ثم قرر في لحظة رآها مناسبة مهاجمة الليبراليين، وأن يقف على مسافة من «الحداثة»!
وهو فجأة قال: «أنا لم أتخلّ عن الحداثة وإنما انتقلت. وحينما قلت عن الحداثة إنها (طبخة بايتة) فلا يعني هذا أنها طبخة فاسدة؛ فالبايت يمكن أن يؤكل ولا يرمى»، وأضاف: «أنا الذي اتهمت الحداثة العربية بأنها حداثة رجعية، لأنها فاشلة فلم تتجه نحو المشروع السياسي أو الاقتصادي أو الفكري، فبالتالي هي حداثة جزء، وليس كلا».
الحكم على الحداثة بالفشل
وهكذا يُحكم على الحداثة بالفشل، على الرغم من أن من اجتزأوها هم من يتحملون مسؤولية الفشل، فهل هذه خفة أم استخفاف؟
وقد لفت نظري أنه لا يرى مشكلة في تداول مفاهيم تنطوي على تفتيش واضح في النيات، وإقرار شبه صريح بأن «الزئبقية» من مفردات الواقع الفكري، فهو – مثلا – لم يُبدِ أي امتعاض أو اعتراض عندما سئل في حوار صحافي عن «التقية الثقافية» عند الليبراليين السعوديين!
وهذا التكتيك في المواربة والإفصاح قد يبرره كثيرون بالقيود على حرية الفكر في العالم العربي، وبعضها مصدره سياسي، وبعضها مصدره اجتماعي، لكن بعض القيود مصدره – دون مواربة – شرعي. وعليه، فقد يبرر البعض مسلك «الزئبقيين» المعاصرين، لكن ما تقوله تجربة التاريخ (وهنا أستعير عبارة قالها محمد جلال كشك): «التاريخ لا تغيره شكاوى مجهولي الهوية»، أي أن «طلب السلامة» بـ«الزئبقية» مرفوض أخلاقيا!
والقضية هنا ليست التفتيش في الضمائر، وهي مفردات طالما استدعيت – بالحق وبالباطل – بل هي وجوب أخذ حقيقتين في الاعتبار. الأولى أن مناقشة ما قاله – أو كتبه – شخص ليس تفتيشا في الضمائر، بل مناقشة لمنتج انفصل عن صاحبه.
الحقيقة الثانية أن دروس التاريخ لا يجوز إهمالها، ففي حقبة التنوير الأوروبي، ظهر سيل مؤلفات انتقدت اليهودية بشدة، وكان مبرر استهدافها تحاشي انتقاد المسيحية التي بقي نفوذها قويا لفترة طويلة، بعد بدء التحول الفكري العلماني الغربي. ويذهب كثير من مؤرخي الفكر الغربيين إلى أن هذه الكتب أسهمت في تقويض الإيمان الديني، وأدى التبشير الواسع بـ«الربوبية» (أي الإيمان بإله مع إنكار الوحي والنبوات) إلى انتشار الإلحاد، فنقض الأسس لا يبقي شيئا لجدران البنيان وسقفه.
الدمية الثالثة
هي الإصرار على القراءة المادية لثقافة تتأسس على نص مرجعي «مفارق للمادة» (الوحي)، وما الصدامات – والصدمات الثقافية – التي شهدناها خلال القرن الماضي من طه حسين إلى الآن إلا ثمرة لهذا المسعى لإعادة بناء ثقافتنا العربية كلها، وفق منظور «معرفي مادي»، وهذه الدمية من «الماتروشكا الغذامية» فتحتها لي عبارة ناقد غربي معروف اختار الغذامي أن يصدر بها كتابه الأول. تقول العبارة: «روضت العلوم الإنسانية نفسها، منذ قرون، على النظر إلى العلوم الطبيعية على أنها نوع من الفردوس الذي لن يتاح لها دخوله أبدا، ولكن فجأة ظهر منفذ صغير انفتح بين الحقلين، والفاتح لهذا المنفذ هو علم (الألسنية)».
والعبارة، أولا، تشير لحقيقة يحرص كثير من الحداثيين العرب على جعلها رمادية ليسهل لهم تحقيق هدفهم، وهي أنهم يستهدفون التغيير الفكري الشامل، وبالتالي فإن أفق عملهم أفق «العلوم الإنسانية» لا النقد الأدبي، وهذا ليس اتهاما، فهذا حقهم واختيارهم. لكن المشكلة – وهذه هي الملاحظة الثانية – أنهم يؤسسون جهودهم النقدية على مقولات تأسيسية غربية تكاد تكون «غيبيات علمية»، وينتقلون وفقا لمسار السجال حول أفكارهم – لا وفقا للضرورات المنهجية – فيحتمون وراء «ساتر المتعين» إذا أدى «التجريد» إلى وضعهم تحت مظلة معينة، وهكذا.
والثقافة الغربية شهدت معركة مهمة استمرت لأكثر من قرن حول وجوه الاتفاق والاختلاف بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وما إذا كان بالإمكان أن تستخدم «الإنسانية» مناهج «الطبيعية» بغية مزيد من الدقة. والغذامي – بإيراده هذه العبارة – لا يعارض ما اعتبره «تراتبية» بين الإنسانيات والطبيعيات تشعر فيه العلوم الإنسانية بالتضاؤل أمام الطبيعية، وهو موقف وراءه احتفاء غربي بـ«المادة» فضلا بالقول بأسبقيتها، وإلا فلا مبرر يسوغه المنطق يجعل أيا منهما أفضل بالضرورة!
وقد كان هذا الخلاف حول المنهج وثيق الصلة بالسياق الأوسع (المعرفي)، مما يعني أن مناقشته في بيئته الجديدة (العربية) متصلا بهذا السياق الأوسع ليس «جريمة تديين للعلم»!
وهنا تأتي أهمية علم حديث نسبيا؛ «علم تاريخ الأفكار»، كنقطة تلاقٍ بين الفلسفة والتاريخ، ويتناول «الأفكار البشرية مبرزا الكيفيات التي تجعل أفكارا ومفاهيم تبقى وتستمر»، عبر «الوقوف عند كل فكرة وعلاقتها بلحظتها التاريخية وخلفياتها الاجتماعية المختلفة».
ويعد عام 1882 حاسما للعلوم الإنسانية عموما، ففيه شغل فيلهلم دلتاي (1833 – 1911) كرسي هيغل بجامعة برلين، بالتزامن مع سيادة «الوضعية» ومناداة دعاتها بأن الخلاص الوحيد لتأخر العلوم الإنسانية عن الطبيعية يكمن في تطبيق المنهج التجريبي عليها للوصول إلى قوانين كلية.
ويتميز هذا العلم بتركيزه على «العالم الباطني للفكر» لا على «العالم الخارجي للحياة العملية»، ومدار اهتمامه الأفكار التي تنتشر. وهو، حسب فوكو: «يتتبع المبادلات التي تتم بين الميادين المعرفية وهجرة الأفكار بين بعضها بعضا» و«كيف تهجر المشكلات والمفاهيم والأفكار المحورية الحقل الفلسفي الذي تشكلت فيه إلى خطابات علمية أو سياسية». (علم تاريخ الأفكار ص 12 – 13).
ومن أبرز أهدافه الكشف عن أفكار قد تكون وراء كل الفكر الصوري أو تعد شرطا له، فهذه الأفكار «افتراضات» أو «تصورات مسبقة» يمتصها الناس بالارتشاح من بيئاتهم العقلية، وغالبا دون دراية كاملة بها. أي أنه «يتركز حول أفكار قد يكون من الأفضل تسميتها (إيمانات)»، وفي تاريخ الإنسانية أفكار «نؤمن بها».
وما يتناوله هذا العلم من أفكار مسبقة تعتبر «إيمانات» هي مربط الفرس! وظاهر الأمر يوحي بأن تاريخ الأفكار يقوّم مقولة «العقل أو الروح هو القوة القصوى وراء كل تقدم في التاريخ» (علم تاريخ الأفكار ص 15). أي أنه «مثالي»، لكنه في الحقيقة وسيط بين المثالي والمادي. والأفكار لا تدفع الناس للعمل إلا إذا أحدثت لديهم إيمانا حيا دافعا للفعل. ويقوم تاريخ الأفكار بمحاولة حسم الصراع المزمن بين المثالية والمادية، فالنتاجات المادية البشرية لها بالضرورة بعد فكري روحي، والفكر بالذات يتحول لقوة مادية، وبالتالي لم يعد هناك مبرر لانشطار العالم الفلسفي لمعسكرين؛ مادي ومثالي. وفي الحقيقة فإن ما يعتبره حداثيون عرب كثيرون حلا توفيقيا بين المادي والمثالي، ليس إلا حلا مراوغا يتحول فيه المثالي إلى مثالي اسما مادي فعلا، على طريقة باروخ اسبينوزا الذي استخدم مفردات ذات مدلولات مثالية متجاوزة للدلالة على ظواهر مادية صرف مثل مقولة: «الإله/ الطبيعة».
ومما يكشف عنه هذا العلم المهم علاقة دور الآيديولوجيا في عالم الفكر، ويقصد بها دراسة الأفكار «بمعناها العام». أي «البحث في وقائع اللاشعور». وكلمة آيديولوجيا ارتبطت في نشأتها بالنزوع الحسي أو المادي في فرنسا في القرن الثامن عشر، فكان المنهج الآيديولوجي المنهج العلمي الوحيد الذي استخدمه الفلاسفة في تحليل الأفكار. وكان الآيديولوجيون أنصار الجماعة الفلسفية التي أسسها الفيلسوف المادي الفرنسي كوندياك، وتأثروا بالتقليد التجريبي، ونبذوا الميتافيزيقا، ورفضوا الفكر الميتافيزيقي، ورأوا أن دراسة الأفكار يجب أن لا تجري من منطلقات ميتافيزيقة. ولم تكد تتبلور ملامح البحث الحديث في تاريخ الأفكار حتى هبت رياح «البنيوية» التي قامت بمراجعة التفسير التاريخي مراجعة جذرية، ومحاولة القضاء على ادعائه احتكار القدرة على تفسير الظواهر البشرية.
وبينما يتصل بالألسنية بالتحديد، وهي من أدوات المشروع الغذامي، فإن العلاقة فيها بين المنهج و«الأفكار المسبقة» (الغيبيات) علاقة وثيقة، على نحو لا نكاد نجد له نظيرا في نظرية نقدية أخرى، وهي لا تمثل خطوة نحو دخول العلوم الإنسانية فردوس العلوم الطبيعية!
فمثلا، أهم مكونات النظرية: «العلامة» يعد (حسب بارت) من «المصطلحات الغامضة جدا»، و«جاك دريدا حينما حاول أن يخضع «العلامة» إلى سؤال الجوهر: (ما أنت؟)»، وصل إلى أنها «الشيء غير المسمى بوضوح، والوحيد الذي يفلت من السؤال المؤسس للفلسفة: (ما هو..؟)».
فهل دخلت العلوم الإنسانية بهذا الغموض وهذه التهويمات الصوفية حول المفاهيم المؤسسة «فردوس العلوم الطبيعية»؟
والأخطر في مسار دي سوسير القول إن العلاقة مع العلامة اللغوية «اعتباطية» انطلاقا من أن العلاقة بين الدال والمدلول ليست «توقيفية» بقدر ما هي اعتباطية وجزافية. وأول ما يرد إلى ذهني أنا شخصيا عما إذا كانت هذه العلاقة التي ترجح فيها كفة «الاعتباطية» على «التوقيفية» يمكن أن تستخدم في فهم القرآن مثلا أم لا؟
ولعل من أهم نتائج مقولة اعتباطية العلامة اللغوية، ما توصلت إليه المدرسة البنيوية السيكولوجية بقيادة الفيلسوف والمحلل النفسي جاك لاكان، الذي دفع النقد الأدبي في فرنسا، نحو اتجاه جديد يقوم على مبدأ أن «البنية الشاملة للغة هي بنية لا شعورية»، فبأي من مناهج «العلوم الطبيعية» يمكن أن يتعامل الغذامي مع عالم «اللاشعور»؟
الدمية الرابعة
التلفيقية والتلاعب بمستويات التعيين والتجريد، والتعميم والتخصيص، وخاصة علاقة اللغة (لغة الإبداع والنقد معا) بالرؤية الكونية. ومن نماذج هذا التلاعب علاقة اللغة بالمقدس، حيث تطرح القضية مبتسرة بقصر دائرة النظر على «المعيش» المباشر اليومي، دون الإشارة لصلته بالمقدس، وحسب الدكتور إدوارد سعيد فإن إشكالية مثل «الشفاهية والكتابة» تثير «العديد من السجالات. إنها مسألة على درجة عالية من الخطورة، كونها ترتبط بعناصر آيديولوجية لا شأن لها بالمعيش اليومي». وهي نقطة لا يعتادها مستخدمو اللغات الأوروبية الحديثة التي تتطابق فيها اللغتان المحكية والمكتوبة، وفقدت فيها الكتب المقدسة سلطانها اللغوي.
وأتوقف هنا عند ملاحظتين؛ فالإجابة عن السؤال تتصل بالآيديولوجيا، أي «الأفكار المسبقة»، أي أنها جزء من رؤية الإنسان للكون والذات، وهي تتضمن بالضرورة انحيازا، ولا تتصل بالعلم بطبيعته المحايدة المنضبطة بالمنهج. والملاحظة الثانية هي الارتباط بين قضية لغوية وفقدان «السلطة اللغوية» للكتب المقدسة!
الغذامي يختبئ وراء الطبيعة «التأويلية» للأدب، ثم يقفز من النص للواقع المتعين ليرتب نتائج لا تلزم عن مقدماتها. ويضرب الناقد المصري المعروف الدكتور محمد عبد المطلب مثالا لهذه التلفيقية قائلا: «حاولت أن أرد على عبد الله الغذامي في كتابه (النقد الثقافي)، لأنه في كتابه هذا ظلم الثقافة العربية ظلما بينا؛ ظلم اللغة العربية واتهمها بأنها لغة ذكورية، ظلم الشعر العربي واتهمه بأنه شعر ذكوري، واتهم الثقافة العربية بأنها عدو للمرأة، فكان همي في مصنفي هذا الرد على هذه الرؤية المغلوطة للغذامي.
فالغذامي اعتمد على منهج الانتقاء، وهذا خطأ فادح، بل إنه رد كل مثالب الواقع العربي الحالي إلى الثقافة العربية القديمة، فذكر أن الديكتاتورية انتشرت في العالم العربي رد فعل للفحل في الشعر العربي القديم.. وقد التقيته مرة في ندوة، وقلت له: يا دكتور غذامي قل لي من هو الفحل الشعري الذي أظهر موسوليني أو هتلر؟!».
وحسب عبد المطلب، فإن «الخطأ الذي وقع فيه الغذامي سببه أنه بدأ قراءة التراث بالرفض وليس بحميمية؛ فقدم منهجا مختلا في كتابه لأنه يبدأ من الثقافة ليصل إلى النص، والمفروض العكس؛ أن تبدأ من النص لتصل إلى الثقافة، لأنك تبحث عن النسق الثقافي للنص، ودائما ما أعتمد مقولة (قراءة ثقافية)، وليس (نقدا ثقافيا)، لأن النقد سيقتضي إصدار حكم، وحكمك على النص هو حكم على الثقافة كلها، إنما القراءة توضيح دون حكم».
وهذا المنطق المعكوس هو ما يسكن قلب الدمية الأخيرة من «الماتروشكا الغذامية»!
_________
* كاتب وباحث من مصر
مجلة(المجلة)
مجلة(المجلة)