في الصباح الأول،شربتُ ماءَاللَّعنةِ..واَنْتَظَرْت


( ثقافات )

تيار خفيٌ وغامض .. يسري في دماء وأرواح رجال العائلة .. العاديين الذي لا يقصدون أي توجهاتٍ منطقيةٍ أو فلسفيةٍ وإنما يسيبون أنفسهم للباعث الساخن – أو لا يتركهم هو- فَينفِّذونَ ويُغمضون عيونهم بعدها براحةٍ وهناءٍ .. ولا مانع من نظرة تشفي ، شريرة بالقطع – في الوجه الذي هو طيبٌ فعلاً. هذه الرغبة التي من المستحيل مقاومتها ، هي العبث بالآباء وشطبهم كأنهم لم يكونوا أبداً .. ليس استدراكاً لعدم القدرة على أي فعلٍ أثناء حياتهم وانتهاز فرصة غيابهم القسري بالموت ثم تنفيذُ انتقامٍ ما.. أبداً ، لم يكن الأمر هكذا .. لكنه يحدث .. فقط ..
ولدتُ لأحمل على قفاي أغرب أسماء تنم عن هواية عجيبة ومتفردة هي حصر مظهر المحبة وإظهار الولاء في تسمية كل والد لولده باسمه هو … لينشأ الطفل محاصراً بالبر والاحترام والتبعية من يوم أن يظهر على وجه البسيطة وحتى النهاية … دلالة الاسم عندهم لم تكن بسيطة ولا عفوية ، بل هي الرمز المحمل بالتاريخ والملامح والسنين والعادات .. بالروائح ذاتها….. وهكذا يكون اسمي الحقيقي – قبل المذابح – مؤمن محمد محمد محمد علي علي علي مؤمن !! والآن وبعد كل الألعاب القانونية والإدارية المتشعبة والمعقدة فعلاً – على مدى السنين الماضية ، تجده في كل السجلات هكذا : مؤمن محمد محمد علي مؤمن !… لكن ومن آخر السطر ، أين ذهب المسمى ( علي ) وهو ابن الشيخ علي مؤمن .. الشيخ واسع الذِكْر الذي كان الشيخ الأزهري الوحيد في الناحية .. صاحب العمود السميك الذي يلتف حوله الطلبة في الجامع الأزهر الشريف وكذلك صاحب العمود النوراني الذي يلف حوله الجميع كباراً وصغاراً في البلدة والنواحي المجاورة .. والذي تزوج تسع مرات!! جمع بين الأربعة نساء الأولى وحدث أن أحببن بعضهن البعض بعد موجات الغيرة الطبيعية الأولى – فاتفقن عليه فطلقهن جميعاً.. ولم تعي الأربعة اللاتي تلونهن الدرس فخالفته إحداهن وأيدتها الباقيات فتكرر المشهد مرة أخرى .. حتى رسا به الحال على الأخيرة .. التي هي جدتي الكبيرة .. من هن هؤلاء النساء ؟ لا أحد يدري .. رغم أنه أنجب من الثمانية نساء المغدورات تسعة وثلاثون طفلاً !! والأغرب أنهم ماتوا جميعا بوباء غامض – المرجح الآن أنه كان وباء الكوليرا الذي حصد أرواح نصف سكان البلدة ومصر كلها – وانطفأ بموت الأطفال ذكر النساء وبالتالي ماتت أواصر النسب الذي جمع عائلاتنا بالثماني عائلات … أنجبت له الأخيرة الولد العفي الذي كان نهاية الرحلة الطويلة لسيدنا الشيخ الذي بسبب رحيق مكانته الدينية تسابقت كل العائلات لنيل بركة مصاهرته رغم أنه مزواجٌ مطلاق .. وكذلك كان كل الناس يغفرون زلاته اليومية ويقلبها الطيبون سجايا خفيةً ومنناً ربانية … وكلما شال الشيخ قرة العين أحست الجدة بالفخر لأنها هي التي حلت فيها البركة واطمأنت و رقدت وليس سواها… لما كانت حاملاً به أقعت عند قدميه وطلبت إن كان الآتي ذكراً أن يكون اسمه ( علي ) … ” على اسمك يا مولانا… عشان النور يفضل ويشعشع ..”.. وهذا ما كان .. ونذرت المولود للعلم فلم يخيب رجاءها واستمر مشهد الحمارة المباركة التي يركبها الشاب ثم الرجل ذو العمامة والكاكولة والبَلْغَة النظيفة .. وهي تسير به الهوينى في طرقات البلدة ليركب القطار الذاهب للمحروسة والأزهر.. استمر المشهد بحذافيره في طريقة الكلام واستلهام اللَّزْمَات وطريقة تحريك العصا.. الخ ماعدا أنه لم يتزوج حتى الآن إلا واحدة أنجبت له عدة بناتٍ وولدٍ وحيد .. وحدث أن الشيخ كان يتمشي قرب الترعة بعد المغربية ويقرأ ورده المسائي اليومي بهدوئه ووقاره المعتادين فخلط رجل عجوز وكليل البصر بينه وبين أبيه وقال ” تفضل يا شيخ علي .. مش الشيخ علي مؤمن برضه ؟ ” ففوجئ أنه أحس براحة وجمال في الاسم أكثر من ( الشيخ علي أبوعلي ) الذي كان يُنادى به وتمنى من داخله أن يستمر النداء للأبد .. ثم مرضت الأم الكبيرة والعالية في المقام بالنسبة للبلدة كلها – وكانت وصيتها قبل أن تنتقل للرفيق الأعلى أن يُسمِّي ولدها ولده المولود حديثاً بنفس اسم الأب والجد ( علي ) .. ليستمر السلسال النوراني ويزدهر .. وحذرت من سيخالف أو يهرب من ” طاقة نوره ” بأن اللعنة ستحل به ثم بالعائلة كلها .. هكذا رأت في منامها ولكن يقين السماء الصافية ليلتها كان شقياً ومراوغاً.. فمات هذا ال علي قبل أن تخطو قدماه العتبات المقدسة مباشرة .. لم يذهب للأزهر ولم تقبِّل الناس يده ولا مسحوا على عباءته رغم أنه متعلق بأهداب الاسم النوراني … وتزوج الأب بأخرى وجاء بالولد الذي علم وأيقن من شيخ الطريقة الذي نظر إليه طويلاً وسط المولد أنه نهاية مطافه والذي رآه يطير في منامه وهو متخشِّبٌ تحت التوتة فسماه محمداً ليكون محموداً في الأرض والسماء .. تجرأ المذهول – أو المبروك كما كانوا يلقبونه – ونسيَ أو تناسى .. وكبر الولد ومال للعلم المدني فلم يدخل الأزهر ولم يتعاطى العلم الرباني .. بل وبدأ يضيق من تكرار الاسم الذي يحمله على ظهره ويقول لمن يسأله عن اسمه ( محمد مؤمن ) بلا أي علي !! .. يقولها بسرعة وبدون تردد ، ليشطب برعونةٍ وتجبُّر كل الأسماء ، المباركة المعنى والرمز والصفة .. ويُضيِّع بيده الآثمة أيقونة البهاء التي حفظت الجميع من المصائب على مدى الأعمار!! فيغيب بهذا العلم وتبتعد الرسالة ومعهما الصلاح والتقوى من طريق العائلة للأبد … ويتحول رجال العائلة من مصادر للبركة إلى مجرد ” ناس طيبين وف حالهم ..” وإن كانوا بين الحين والآخر يستدعون بريقاً في العيون يقرأه أي آخر فيخفض نظره وينطق بالحق ” سلسالهم المبارك يشفع لهم ..” … قرب موت محمد مؤمن وكان قد تأخر في الإنجاب .. رزقه الله بالولد الموعود – الوحيد كعادة القَدَر مع العائلة – فجاءته الجدة المهيبة في المنام وذكرته بذنبه وتطاوله فحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه قبل أن ” يقابل رب كريم ” وكاد أن يسمي ابنه علياً .. ليعود النور وتتمشى المهابة قرب الدور.. ونبدأ الحكاية البهية من جديد .. لولا أن الولادة كانت قرب المولد النبوي فأحس أن ولده الذي سيعيش يتيماً مثل الرسول يقول له ” أنا اليتيم يا أبتي .. محمد الضعيف الوحيد ولستُ علياً القوي المكرم ..” أغمض عينيه وهو يقول ” لك ولدي يا رسول الله .. فاشفع لي به وسامحني من أجل خاطره ..” ولا نذيع سراً إذا ألمحنا لرغبة خفية عنده في أن يحمل ابنه اسمه هو.. كي يخلد ذكره ويعيش تحت جِلْد الحبيب حتى بعد الغياب .. ومات الأب وعاش الابن في جوٍ لم يستطع الفكاك منه – ولم يُذكر أنه حاول – فكان الصادق الأمين المتمثل لسيرة الحبيب المصطفى في كل أحواله حتى أنه هاجر مثله !! ..وكان هذا الأمر نادراً في قريتنا ومستهجناً .. لكنهم تلقوه بكل ما يليق ” بالرجل البشارة ” من لمسٍ للملابس وتملية طلبات – مع اليقين بالقبول والرضا – لآل البيت الذين ينيرون روح القاهرة المحروسة ، تبدأ بإنجاب الذكور وحتى شفاء الأمراض مروراً بالزرعة التي لم تغطي مصاريفها وحماية الدور من العفاريت …الخ .. وما أن استقر جدي في القاهرة حتى أحس بهواءٍ آخر ومختلف .. يلزمه ، كي تمتلأ الرئتين بأريجه المعتَّق أن يكون حراً بحق .. وأن يفتح روحه ليستمع إلى التيار الغامض الذي يشترط عليه كي يستقبل رسالته أن يخلع عنه كل طبقات هذا النور التي تحجب عنه الرؤية وتمنع أسطورته الذاتية من التشكل … وهكذا بدأ في الذهاب للسجلات .. سنواتٍ طويلة حتى أزال اثنين من الجدود وكذلك والده !! وجلس على مقهى الفيشاوي وتنهد تنهيدة كانت أعمق من صفاء التاريخ ساعتها قائلاً لنفسه “.. لكي تفتح الشُبَّاك على مصراعيه ، لترى الكون عارياً وتشم رسائله الغامضة .. لابد وأن تعطي ظهركَ لكل ما لم يكن لك يدٌ فيه ..”… وأغمض عينيه براحةٍ وهناءةٍ غير مزيفة .. ثم كان أبي الذي كان خجولاً لدرجة أنه لم يُمَكِّن أحداً من النظر في عينيه أبداً .. ظلت نظرته وفكرته وسره للأرض حتى مات .. أغلب أوقاته كانت في مُصَلاَّه في المنزل يناجي ربه ويطلب منه المغفرة .. وكان لا يرد على أي أسئلة حول جدوده ويكتفي بأن يهز رأسه .. وقبل وفاته قال لي بصوته الخفيض أو ببصره الخفيض ” .. وأراد الله لي كما أراد لكل رجال العائلة من قديم الزمن .. فلم أرزق إلا بولدٍ وحيدٍ هو أنت فاسمعني .. بصراحة يا ولدي ، أنا أخاف على جدكَ منك ! فعدني أن تقاوم ذلك الصوت المعدني الآسر.. الدبيب الخفي الذي سيدعوكَ قريباً لتخفيف اسمك وشطب أبي وكأنه لم يعش بيننا ولم يمشي على هذه الأرض .. هم فعلوا ذلك فَسِرْ أنت سيرتي أنا ولا تفعل مثلهم .. يعلم الله يا ولدي أنني قاومتُ هذه اللعنة كثيراً كثيراً حتى مرضتُ في النهاية ولم يتحمل جسدي .. المهم أني سأخرج من الدنيا بريئاً من أي عبث .. بل وحاولت تصحيح أخطائهم – غفر الله لهم – بأن أسميتك مؤمن .. على اسم الأول .. البعيد هناك .. لنبدأ من جديد دون أي أخطاء !! .. عدني يا ولدي .. أرجوك ..”.. أمسكت بيده المرتعشة والدموع تملأ الدنيا غماماً في عيني وأقسمتُ على أن يكون جدي في عنقي حتى النهاية .. وأَبرَّيتُ بقَسَمي والحمد لله وعشتُ طويلاً ، أنام مستريحاً ومبتسماً وراضياً.. حتى لَوَّنت اللعنة المجرمة نفسها وتحولت لقوافي وموسيقى ثم لقصائد نثرية في النهاية .. وبدأتُ أستعد للانتقال بما كنت أكتبه من حيز الدفن في الأدراج إلى مرحلة النشر، إلى العَلَن والفضيحة .. فإذا بدمائي تفور وترتفع درجة حرارتي جَرَّاء الحرب الضروس داخلي .. جيشٌ يزعق ويقول : أول قصيدة لابد وأن تحمل اسماً معقولاً هو مؤمن محمد علي وليس مؤمن محمد محمد علي .. والجيش الآخر يرسم لي على سماء رمادية تملأ الدنيا شكل أبي وهو ينظر لي للمرة الأولى ويطوقني بالقَسَم … ثم أذن القدر أن أنام .. ورأيتني أقتل أبي وبعدها ألهث ثم أهدأ وأبتسم وأمامي طريق متعرجة في آخرها ظلامٌ وفحيح .. فتحتُ عيني والعَرَق يُغرق الغرفة كلها من حولي .. وانتظرتُ حتى سكنت درجات القلب وبعدها تقدمتُ من الورقة وكتبتُ مؤمن سمير… ضَحَّيتُ بك أنت يا أبي لأحفظ الوعد .. لأَبرَّ بيقينك الذي تركتنا وأنت فيه … قتلتكَ أنتَ لأشيلَ أباك ولكن في قلبي .. وهكذا صار اسمي اسمان وكأنهما واحد .. لا أب ولا جدود ولا أي علاقة بالعائلة الموغلة في الرسالات .. وحدي بلا أي وميضٍ يثقل خطواتي أو أشباحٍ للبهاء الساحر 
تسندني في صحراء الحياة … 
أنا نهاية طموح اللعنة .. 
العاري .. بلا تاريخٍ ولا أيقونات … 
أنا الذي كل ليلةٍ أحلمُ بنَفَقٍ طويلٍ ومتعرج .. 
وفي آخره ظلامٌ وفحيح.
_______
*شاعر من مصر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *