سوريا درب الآلام نحو الحرية


*أمجد ناصر

يضرب كتاب ومحللون سياسيون، منذ تفجُّر الثورة السورية وحتى الآن، أخماسا بأسداسٍ لمعرفة “دِين” (أعني ماهية) النظام السوري، ما هو هذا “النظام” الذي يواجه الكلمة بالرصاص، والحجر بالمدفع، والبندقية بالبراميل المتفجرة.. وأخيرا بالكيميائي؟

أيُّ نظام هذا الذي لا يعرف “تدرُّج” القمع “التقليدي” كخراطيم المياه، قنابل الغاز، الرصاص المطاطي، الرصاص الحي، وغيرها؟ ما تركيبة هذا النظام الذي لا يعرف خطا أحمر، ولا قاعا للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه ماكينته الدموية العمياء؟
يحاول هؤلاء الكتاب (بمن فيهم كاتب هذه السطور) أن يستعينوا بالتاريخ، بالجغرافيا السياسية، بالاقتصاد السياسي، بالتركيب الطبقي، فلا يكادون يصلون إلى “سرِّه” الغائر. 
فأيُّ نظام إذن، هذا الذي لا “تشتغل” حياله أدوات الفهم وآلياته التي تشتغل، إلى هذا الحد أو ذاك، حيال معظم الأنظمة التي تسود العالم؟
لِمَ، حقا، يصعبُ “فهم” وحشية النظام السوري، بل وتفاقم هذه الوحشية باطراد، مع أن الوحشية التي يواجه بها ثورة ثلاثة أرباع شعبه لم تُعد هذه الجماهير إلى حظيرة الطاعة، ولا حسمت المعركة، عسكريا، مع “العصابات المسلحة”؟
واحدة من أكثر محاولات “فهم التاريخ الراهن” للوضع السوري تسلحا بالأرقام والمعطيات الميدانية والتحليل العميق يقدمها عزمي بشارة في كتابه الجديد “سوريا: درب الآلام نحو الحرية” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013). 
في هذا الكتاب الضخم، حجما ومعطيات، يتقدم إلينا عزمي بشارة بأكبر جهد بحثي “عابر للاختصاصات” (كما ينص المؤلف) صدر حتى الآن عن الثورة السورية (نحو 660 صفحة من القطع الكبير). 
في هذا البحث “عابر الاختصاصات” الذي يحاول “تجاوز عملية التوثيق إلى الفهم” تتضافر حقول معرفية عدة، منها علم الاجتماع والعلوم السياسية والعلاقات الدولية والاقتصاد، ورغم ذلك يقول المؤلف إن بحثه هذا “يعي حدوده” باعتباره توثيقا تاريخيا يجري في خضمِّ حالة سيولة سياسية وميدانية مفتوحة. 
ومع أن الكتاب ليس مكرسا لدراسة تركيبة النظام السوري، فهدفه، كما أشرنا، “توثيق” الثورة السورية وتجاوز التوثيق إلى “الفهم” بما يعنيه ذلك من تحليل واستنتاج ووضع تقديرات، فإنه يمثل في الوقت نفسه، المحاولة الأنجح للوصول إلى “سرِّ” استعصاء “النظام” السوري على “الفهم”.
لا يتكون هذا “السرُّ” من “تعازيم” ورقى سحرية لا يملك فك طلاسمها إلا الضالعون في السحر، بل في تركيبة “هوياتية” تأخذ من النظام الشمولي “ترسيمته” الشكلية الكاملة من دون انضباط النظام الشمولي ومنعته (المفترضين) ضد الفساد والمحسوبيات، ومن النظام الطائفي جوهره من دون مظهر المحاصصة الذي يدل عليه. 
“سرُّ” النظام السوري واستعصاؤه على “الفهم”، خصوصا في زمن الثورة السورية (أي عندما وضِع مصير “النظام” على المحك) يكمنان في هذه النقطة الغائرة – الظاهرة التي يشخِّصها عزمي بشارة في كتابه هذا بوضوح، في الوقت الذي يتجاهلها الخطاب اليساري السوري في نوع من “الترفُّع”، أو إشاحة الوجه، كما لو أنها “عورة” ينبغي التستُّر عليها، معولين على التحليل الطبقي في وصف النظام وفهمه.
ليست شمولية النظام السوري هي “سر” استعصائه على الفهم ولا بطشه البوليسي ولا “حصانته” الداخلية المتكئة على سياسته الخارجية “الممانعة” التي كشفت الثورة السورية زيفها التام.. كلا، لا يكمن استعصاؤه في أي واحد مما ذُكِر على حدة ولا فيها كلها مجتمعة، بل في “جوهر” النظام نفسه الذي تشكل “الهوية” الأقلوية عصبيته (بالمعنى الخلدوني) وتشدُّ أركانه وقواعده في لحمة واحدة، وفي مصير مفترض واحد.
وفي هذا الخصوص يجادل بشارة بالقول إن للمجتمع السوري خصوصيته التي لا تشبه المجتمعَين المصري والتونسي، لذلك جاءت ثورته مختلفة عن تينك الثورتين، كما جاء ردُّ نظامي بن علي ومبارك مختلفا كذلك عن رد فعل النظام السوري.
لكن “فرضية” بشارة لا تتوقف عند حد القول بـ”الخصوصية السورية” فقط، بل يشخّص هذه الخصوصية بما يبدو مفاجئا لمن يرى المجتمع السوري موحدا، ومتماسكا، وتطبعه هوية وطنية ناجزة.
على العكس من ذلك يرى بشارة أن المجتمع السوري لم ينجز هويته “الوطنية” (التي يلغو بها النظام وبعض قوى المعارضة) بسبب تركيبه الديني والطائفي والإثني الذي أعاق تشكل هذه الهوية الوطنية، التي تسمح بفصل المجتمع عن الدولة (كما هو الحال في المثالين المصري والتونسي)، لذلك أوجدت هذه “التركيبة”، تحت ظل الشعار القومي المجنح، “جماعات أهلية تجمع بين المجتمع والنظام” وتمكن النظام، من استثمار ولاء الأجهزة الأمنية وضباط الجيش في استخدام غير محدود للعنف”.
لعل هذا يفسر ما يصفه بشارة بـ”اغتراب” النظام شبه الكامل عن المجتمع والتعامل معه كما لو أنه مستعمر خارجي.
فعندما تكون قوى النظام المسيطرة (أمن، قوات نخبة عسكرية) في يد طرف “هوياتي” يعتبر أي اهتزاز لسلطته تهديدا مباشرا لمصيره، تسلك (هذه القوى) سلوكا يشبه المستعمر الأجنبي الذي تقوم سلطته على القهر والعنف وليس على ما هو مشترك مع الشعب الذي يحكمه.
الانطلاق، سلفا، حتى وإن كان ضمنا (كما هو الحال في سوريا) من موقع “هوياتي” معين يعني بالضرورة تحوّل المعادلة القائمة بين الحكم (الأقلوي) و”أكثرية” الشعب إلى “أنا” و”آخر”، وهذا هو الحال، بالضبط، مع المستعمر الأجنبي.
لم يكن نظام بن علي أكثر ديمقراطية من نظام بشار الأسد، ولكنه (وهذا هو الفارق الذي يجادل فيه بشارة) لم يصدر من “هوية” أخرى غير هوية الشعب التونسي، وهذا ينطبق إلى حد كبير على نظام مبارك.
فالدولة في سوريا هي النظام والنظام هو الدولة، والنظام لا يصدر، رغم قعقعة شعاراته القومية، من هوية وطنية جامعة بل من موقع طرفي داخل المجتمع السوري.
وهذا ما استدعى ردا مجتمعيا سوريا مشابها يمكن تلمّسه (الآن على الأقل) في القوى العسكرية السورية التي تقاتل النظام من أرضية “هوياتية” تلهج بالأكثري وتعده معيارا للحق.
وفي نقطة “الاستعمار” الداخلي، يقول عزمي بشارة إن النظام “قد يسخر آليات مع قوى اجتماعية وطبقات تجارية واستثمارية من أجل السيطرة، لكنه لا يرى نفسه جزءا منها ولا ممثلا لها، وتساهم هذه الحقيقة، إضافة إلى ولاء الأجهزة الأمنية، في تفسير القسوة غير المسبوقة في قمع الاحتجاجات”.
وليس مفاجئا -والحال هذه- أن يقول بشارة إنه حثَّ النظام على سلوك طريق الإصلاح خلال الأسابيع الأولى للثورة، باعتباره الحل الأفضل الذي يمكن أن يجنب سوريا خطر الاحتراب الطائفي، بسبب ما يسميه “تسييس الهويات”، لكنَّ نظاما له تركيبة النظام السوري غير قابل -بسبب طبيعته الموصوفة- للإصلاح الفعلي، ففي ذلك نهايته، لذلك فإنّ ما أقدم عليه مبارك وبن علي من “تنازلات” و”إصلاحات” في غضون أيام لم يقدم عليه بشار الأسد في نحو ثلاث سنين من الثورة وأكثر من 150 ألف قتيل.
هذه النقطة تكاد تخرج كلمات بشارة من حيز البحث إلى حيز “الحيرة” أو الحسرة. فالإصلاح في الوضع السوري أفضل، بما لا يقاس، من أثمان الثورة الباهظة، ولكن هذا الإصلاح المنشود ممتنع حكما بوجود النظام نفسه!
لقد طبعت تلك “الحيرة” الحراك الشعبي السوري نفسه الذي رغب في التغيير، أول الأمر، من خلال النظام نفسه، فلما أدرك، بعد نحو ستة أشهر من الثورة السلمية، استحالة هذا المسعى لجأ جزء منه إلى نوع من التسليح الذاتي، سلاح الدفاع عن النفس.
ولن نتفاجأ لاحقا إذا عرفنا أن النظام عمل، بكل خبراته الأمنية المشهودة، إلى جرِّ الثورة إلى العسكرة سواء من خلال فتح الباب لـ”لجهاديين” للانخراط في الثورة، أم من خلال تركه بعض مخازن السلاح كي تقع في أيدي المنتفضين ضده.
وبالمعنى السابق، يشدد بشارة على أن “خيار السلاح” كان خيار النظام وليس خيار الثورة، فـ”لم تكن هناك أصلا ثورة منظمة ذات قيادة مركزية تفكر بالبدائل وتضع الخيارات، بل ردات فعل عفوية ضد النظام من شعب حرق جسور العودة إلى الماضي، أي أنه مستعد لفعل أي شيء إلا العودة إلى الوراء”.
وبهذا المعنى بدا النظام الرافض للإصلاح، وغير القادر فعليا عليه، بالمعنى الجذري، والمنطلق أصلا من أرضية “هوياتية” كمن يخوض حربه الأهلية.
فلا يطمح سلوك النظام الأمني والعسكري الذي يشبه سلوك قوى الاحتلال، إلى “تأديب” المنتفضين أو “ردِّهم” إلى “الحظيرة”، بل سحقهم تماما، بتعميم “سيناريو حماة”، ولكن بنطاق أكثر اتساعا ودموية.
هذا سلوك “هوياتي” بامتياز، سلوك “طرف” في حرب أهلية مستعرة وليس سلوك نظام فوق طائفي يعمل على الحفاظ على “أمن” البلاد و”سيادتها” و”استقلالها”، ففي سبيل أن تكون له اليد العليا في “حربه الأهلية” جلب بشار الأسد قوى “أجنبية” لترجيح كفته في هذه الحرب، ولم تكن صدفة أن لتلك القوى إشكالاتها، هي أيضا، في موضوع الهوية مع محيطها “الأكثري”، وتلك مسألة متفاقمة في الحال العربية اليوم ليس هنا مجال نقاشها.
هذا الانفجار لـ”الهوية” (أو تسييسها على حد تعبير بشارة) ملحوظ بشدة في الثورة السورية، بل إنه -للأسف- الأعلى صوتا، رغم محاولات المعارضة السورية الساذجة، التهوين من شأنه واعتباره من صنيع النظام ولا أصل له في الواقع السوري.
__________
* شاعر من الأردن يقيم في لندن (الجزيرة) 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *