*
يدخل اللبناني ماهر قصير الفيلم الوثائقي “ليال بلا نوم” من خلال كليشيهات فوتوجرافية أكلها الاصفرار وصورة يقظة في قدحتي والدته مريم سعيدي، إذ تبدو فاقدة لجزء من ماضيها الفردي; كأن اختفاء ابنها محا صلتها بما يدور حولها، فراحت تجرجر مأساتها وحسرتها بترفع يخونه غضب عرضي.
ويقوم فيلم المخرجة اللبنانية إليان الراهب الذي يعرض في الصالات اللبنانية حاليا ومدته 128 دقيقة، على شبه مواجهة بين الأم والمسؤول السابق في مخابرات “القوات اللبنانية” أسعد شفتري، حيث تحملّه وزر فقد ابنها المراهق والمقاتل في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني في 17 يونيو حزيران 1982.
وفقد ماهر قصير في معركة كلية العلوم في الحدث، وهي إحدى مناطق خطوط التماس بين المنطقة الغربية ذات الغالبية الإسلامية والشرقية ذات الغالبية المسيحية في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
وخلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاما، هام أهالي المخطوفين والمختفين قسرا البالغ عددهم 17 ألفا سنوات طويلة بحثا عن أثر لابنائهم بعدما غسل المسؤولون عن الحرب الاهلية أيديهم من حصادها المرير.
وكان ماهر ضمن هؤلاء غير أن لا أحد يذكره في التاريخ; لا المقاتلين من الخصوم والرفاق ولا المسؤولين الرسميين ولا الجريدة الحزبية. سقط ابن الخامسة عشرة “سهوا” من قائمة “الحوادث الكبرى” التي تستحق التأريخ.
تسعى المخرجة الراهب إلى كسر ميثاق صمت غير معلن يكمم الأفواه منذ انقضاء الحرب الأهلية في 1990. وتختار لهذا الغرض مرافقة شفتري، المنغمس بتمارين الاعترافات العلنية بما اقترفه في الحرب والتي تتبدى في الفيلم الوثائقي عرجاء وناقصة.
وعندما تسأل الراهب: “كم شخصا تورطت في اختفائهم؟” ، يرد:” لا أعرف”. ويتحفظ شفتري على الإدلاء بما يعرفه في شأن ماهر قصير حماية لآخرين ويحاول مرارا استدراج الوثائقي إلى ساحته هو.
فعندما يجوب منطقة الكرنتينا حيث المقر الحزبي السابق، حيث طمرت أرواح كثيرة، يرفض القبول بتعبير “مقبرة جماعية” ويفضل عليها تعبير “مكان تكديس الجثث”. مما يؤكد على أن حرب المفاهيم التي اكتنفت الحرب الأهلية لم يخمد أوارها.
ما تعجز الراهب عن اخراجه بلسان شفتري من تفاصيل وحيثيات تذهب إليه مواربة عن طريق لقاء المحيطين به. نرافق شفتري خلال رحلة صيد في وسط رفاق السلاح القدامى وأبنائهم حيث يجري اصطياد أرنب ثم تقطيع أطرافه ورأسه كأنه خرقة. يسأل أحد المراهقين عن إحساسه عندما قنص الحيوان فيجيب بالفرنسية “تشعر أنك فخور عندما تقتل الأرنب”.
في الفيلم شفتري متعدد. شفتري مؤنسن يشكو الأرق بعد مشروع المخرجة الوثائقي. وشفتري الباحث عن التكفير لاحقا عندما يلتقي “العدو” السابق المتعاطف مع الفلسطينيين المطران غريغوار حداد ممددا على فراش المرض. لكن اللحظة لا تستمر وتفسح المكان لأسعد شفتري آخر معتد بنفسه يسطو على الجزء الأكبر من الوثائقي.
يروي انه قتل أحدهم بسكين بعدما طلب منه ذلك ويستغرب انه لم يشعر آنذاك بشيء. لا يذكر الملامح أو الاسم، يذكر أنه باغته من الخلف فحسب.
في أحد مشاهد الوثائقي (سيناريو وانتاج نزار حسن) تصافح عين الرائي صور مفقودي الحرب اللبنانية الذين خصصت لهم جمعية “أمم للتوثيق والأبحاث” معرضا في شاحنة صغيرة بلا سقف تنقلهم على أنغام “يا مسافر وحدك”. تلمس وجوه المفقودين الهواء تواقة إلى الخروج إلى الضوء والعودة من نسيان قسري.
ينتهي الوثائقي في أسفل درج كلية العلوم عند مساحة من الأرض قطرها 30 مترا; مكان مقبرة جماعية حيث يروي مقاتل من حزب القوات اللبنانية المسيحي نسمعه ولا نراه، أن ماهر وآخرين دفنوا. لكن الاكتشاف يخلف حسرة لأنه يبدو في السياق اللبناني مجانيا.
لا يشبه الخروج من “ليال بلا نوم” المجيء إليه. تضغط الحكاية على الأنفاس مثقلة بما صنع منها جثثا، ودما حارا وفظائع اقترفت بدم بارد.
__________
*(رويترز)
__________
*(رويترز)