*بشار كاظم
هل لنا أن نتجاوز أفراحنا وأزماتنا السابقة من أجل صناعة لحظة آنية مكتفية بذاتها، أو من الممكن أن نتخطى الماضي بتنوّع ذكرياته لنكوّن صورة حاضر يؤمن لنا مستقبلًا مغايراً. فيلم المخرج الإيراني (أصغر فرهادي) الأخير “الماضي” يغمرنا بأحاسيس جياشة مختلفة عن الزمن والعلاقات الانسانية بإطار درامي يجيده هذا المخرج الذي طالما فاجأ متابعيه ببساطة أعماله ورصانتها.
وضع فرهادي، في السنوات الأخيرة، بصمته المميّزة في الوسط السينمائيّ العالميّ واستطاع أن يتحصل على الكثير من الجوائز والتكريمات في المحافل الدوليّة، حتى اختير من قبل مجلة “التايم” الأميركية كأحد أكثر مئة شخصية تأثيراً في العالم لسنة 2012 . فيلمه الأخير “الماضي” الحاصل على جائزة لجنة التحكيم العالميّة في مهرجان كان الفائت تدور أحداثه حول “انفصال” – اسم فيلمه السابق وموضوعه – زوجين، أحمد القادم من ايران تلبية لطلب زوجته ماري المقيمة مع ابنتيها في فرنسا، حيث ترغب ماري باكمال اجراءات الطلاق الرسمية من أحمد لتبدأ حياة جديدة مع سمير الذي تدهورت حياته بعدما وجد نفسه وحيداً مع ابنه بعد اقدام زوجته على محاولة انتحار فاشلة أدت بها الى غيبوبة دائمية . يُقحم أحمد مكرهاً في علاقة ماري الجديدة خصوصاً بعد تدهور علاقتها مع لوسي، ابنتها الكبرى، بسبب رفضها لعلاقة أمها الجديدة. وسط هذا الاشتباك الدرامي المتشعب تجد كل شخصية من شخصيات الفيلم نفسها مربوطة بخيوط ماضٍ قريب أو بعيد يعيق تحركاتها ويمنعها من استقرار حياتي تبحث عنه جاهدة بشتى الوسائل، فهي تكذب وتخفي الكثير من الحقائق من أجل ترسيخ وهم هذا الاستقرار.
تشعر وأنت تشاهد الفيلم انك أمام عمل من قيمة أعمال انغمار برغمان أو روبرت بريسون، عمل يمكن وقوع أحداثه أو مشاهدته في أي زمان ومكان، دراما الانسان الباحث عن مصالحة الذات ومحاولة احتواء العلاقة مع الآخر، وهي معادلة قام بتحقيقها مخرج إيراني آخر، هو عباس كيارستمي . فنحن أمام فيلم ذي بناء درامي اعتيادي وميزانية انتاجية بسيطة مقارنة بما تقدمه السينما المعاصرة من أرقام، وبرغم ذلك فأن طابع الإيقاع الإنساني لا يتيح لك إلا أن تتشبث وتتأثر به. ومثل مافعل في فيلمه السابق “انفصال” قام فرهادي بالاعتماد على الترميز الكلاسيكي في مشاهده، فمنذ المشهد الأول وعند وصول أحمد الى المطار يجد ماري في انتظاره، يجري حوار بين الاثنين من خلف قاطع زجاجي وهو ما يبين طبيعة علاقتهم من البداية. وهذا الاشتغال تحديداً مشابه للمشهد الأخير في “انفصال” حيث يتم العزل مكانياً في اللقطة الواحدة بين نادر وسيمين أبطال الفيلم من خلال بوابة تفصل بينهما . ويتكرر هذا الترميز أكثر من مرة داخل الفيلم رغبة من المخرج في التأكيد على هذه الثيمة .اما الايقاع العام للفيلم فهو أكثر بطءاً من بقية أعمال فرهادي، وما حافظ على اتزان بنية الفيلم عدة عوامل منها أسلوب التأجيل السردي الذي اتبعه. فسيناريو الفيلم يمرّ بعدة منعطفات من خلال تكرار عملية العقدة والحل في القصة مما يخلق زيادة الاهتمام والتشويق عند المتابعة، وأحد أهم العوامل الأخرى هو التميّز في الاداء من قبل الممثلين وبشتى فئاتهم العمرية الذين تمكنوا من تجسيد تحوّلات شخصياتهم غير المتزنة، تحديداً ما قدمته الممثلة الفرنسية-الأرجنتينية بيرينيس بيجو في دور لوسي من أداء مذهل استطاعت من خلاله أن تخطف جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان.
فيلم “الماضي” هو من انتاج فرنسي، وأغلب حوارات الفيلم باللغة الفرنسيّة، وبذلك يدخل أصغر فرهادي مرحلة جديدة في تجربته السينمائيّة التي دخلها الكثير من المخرجين الايرانيّين من قبله من خلال عملهم داخل منظومة الفيلم الفرنسيّ، وهو بذلك يعمل على رسم مستقبل جديد للسينما الايرانيّة يرسخ من وجودها المميّز ومساحتها في المحافل السينمائيّة العالميّة.
فيلم “الماضي” هو من إنتاج فرنسيّ، وأغلب حوارات الفيلم هي باللغة الفرنسيّة، وبذلك يدخل أصغر فرهادي مرحلة جديدة في تجربته السينمائيّة التي دخلها الكثير من المخرجين الإيرانيّين من قبله من خلال عملهم داخل منظومة الفيلم الفرنسيّ ،،
___________
*( الصباح الجديد)