حــيرة


*محمود شقير

( ثقافات )

الصباح رمادي، وثمة غيوم متجهّمة في السماء، وبرودة خفيفة تتسلل إلى أجساد المارة، والبنت التي افترقت عن حبيبها بعد خصومة مريرة، ترنو عبر زجاج السيارة إلى طالبات المدارس السائرات فوق الأرصفة، تغبطهن على الابتسامات البريئة التي ترتسم على وجوههن، تشعر أن غصة تنمو في داخلها بعد اكتشافها أن ذلك الولد كان يلعب معها لعبة خبيثة منفّرة.
البنت تتمنّى لو أنها لم تدخل في التجربة المرّة. في البداية، بدت التجربة بالغة العذوبة، والبنت الآن لا تعرف كيف تستعيد ابتسامتها البريئة، والكاتب الجالس إلى جوارها يبحث عن حبكة لكي يكتب قصته، والكهل النحيف يرقب المشهد بحذر، يتظاهر بأنه لا يلاحظ شيئاً. الكاتب يتشمّم بأنفه مثل كلب جائع، والبنت تبدو كأنها على وشك أن تقول: ما علاقة الكاتب بشؤوني الشخصية؟ الكاتب يبدو كمن يريد القول: القصص ملقاة على قارعة الطريق، وأنا لا أتطفّل على أحد.
البنت تهبط من السيارة، يفسح لها الكهل في المكان كي تمرّ من جواره، يصطدم نهدها المشرئب بذراعه، لم تأبه للأمر لأنه في عمر والدها، الكهل أيضاً تظاهر بأنه لم يأبه للأمر بالرغم من تيار الكهرباء الذي هزّ بدنه، الكهل لا ينكر أنه أصبح مشغولاً بحكاية الأعمار منذ أن شارف على الخمسين. لذلك، فقد خمّن أن الكاتب أكبر من البنت بعشر سنوات على الأكثر، وأصغر منه بعشرين عاماً على الأقل. الكاتب يهبط من السيارة هو الآخر، أثار فضول الكهل بفعلته، بل إنه أثار حفيظته، لأنه لم يتوقّع منه أن ينـزل من السيارة في هذا الموقع بالذات، ربما لاعتقاده أنه يعمل مدرّساً في المدرسة التي لم تصلها السيارة بعد، ولاعتقاده أنه لن يكون جريئاً ومبادراً إلى هذا الحد. الكاتب يتوقّف قرب البنت فوق الرصيف، كما لو أنه يبحث عن نهاية لقصته، ولكن من قال إنه معني بكتابة قصة في مثل هذا الصباح؟
الكاتب يبتسم للبنت، والبنت تبدو مدهوشة بعض الشيء، الكاتب يقول كلاماً ما، والبنت تصغي بانتباه، ولا تتفوّه بأية كلمة، الكاتب يقبض على يدها، والبنت تبدو متردّدة، لا تدري هل تبقي يدها في يده، أم تحرّرها من قبضته؟ تسحب يدها في اللحظة الأخيرة دون استفزاز، والسيارة التي تقلّ الكهل تبتعد الآن.
يمضيان، كتفها ملاصق لكتفه، ويداهما متقاربتان، والكهل يسأل نفسه بعد أن غيّبه المنعطف: هل كان ثمة كاتب مع البنت فعلاً؟ ثم لا يلبث أن يتساءل من جديد: هل كان ثمة بنت أصلاً؟ 
لكنهما، في تلك اللحظة، كانا يواصلان سيرهما المتئد فوق بلاط الرصيف، ولا يكترثان لأحد.
_________
* قاص من فلسطين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *