منامات


* عائشة أحمد


يُعذِّبني فارق التوقيت بيننا.
أفكِّر أن أخبره بذلك، لكنني أمتنع. أخفته بما يكفي عندما أخبرته أنني قررت أن أتزوجه، وبأنني أعلمت أختي الصغيرة وابنة عمي وثلاثاً من صديقاتي بهذا الأمر. قال لي حانقاً: «من التالي؟» رددت عليه بأنني سأُعرِّفه على والدي بعد أيام أو أسابيع قليلة. انفجر ضاحكاً، ولم يكن يدري بأنني جادّة فيما أقول، ولم أقل له ذلك لئلّا أثير هلعه.
يعلم الله أني لست صبورة البتة، وأكثر ما أكرهه هو الانتظار. ولكني تعلَّمت، بسبب فارق التوقيت بيننا، أن أصبر وأنتظر. أمرّر الوقت بصعوبة فائقة وأنا مترقِّبة ردَّه على رسائلي، التي لا يقرؤها إلا متأخراً، إما لأنه نائم أو في اجتماع عمل، أو يتناول طعامه مع والدته.
يخبرني كل صباح عن أحلامه. كان لا يحلم إلا قليلاً. الآن يحلم كل ليلة. آتيه غالباً وأنا مُحمَّلة بالورود. يقول بأنه رآني ليلة أمس، وأنه في البداية لم يعرفني، ولكني مددت يدي إلى صدره، ودسستها تحت قميصه، وثبَّتها على موضع قلبه، يقول، في الوقت الذي اضطرب وازداد خفقان قلبه أدرك من أكون، وناداني سعيداً باسمي.
***
رأيتكِ في المنام.
كنتِ في حديقة المنزل الخلفية في فستانكِ الخفيف المشجَّر. وبين يديكِ ورود حمراء وصفراء مقصوصة بغير عناية. لمَحْتكِ من وراء زجاج النافذة، وعندما تلاقت عيوننا، ابتسمتِ لي. لم أعرفكِ، خانني حدسي. وشعرت بحرجٍ شديد وأنتِ تلوِّحين لي مبتهجة، تتقدَّمين نحوي، وتُسلمينني الباقة. قلتُ لكِ معتذراً بأنني «نسّاي»، لم تحزني، ولم تصابي بخيبة أمل، مددت يدكِ لي من خلال النافذة ودسستها تحت القميص الذي كانت أزراره العلوية مرتخية، وثبّتِّ راحتك فوق قلبي مباشرة. سألتني مرة أخرى إن كنتُ قد عرفتكِ الآن، لأن قلبي ازدادت نبضاته. وناديتك باسمكِ وأنا غير مصدق، ردّدته مرات ومرات، سعيداً به وبكِ وبهذه الزيارة. لقد تغيرتِ. قلتُ لكِ أنكِ تغيرتِ. وبالكاد عرفتك.
سألتكِ أن تدخلي. لكنكِ نظرتِ إلى الباب الخلفي، وبقيتِ صامتة. أبقيتِ يدكِ على إفريز النافذة، وأحسستُ بأنكِ غير مرتاحة لفكرة الدخول إلى البيت، عندها قلتِ لي بأن الجو لطيف، وبأنها لا بدَّ ستمطر، وبدأت أحدِّثكِ أنا عن فكرة غريبة تراودني للكتابة عنها.
كان هناك ضجيج في الغرفة المجاورة، وطلبتِ مني أن أغلق الباب. فعلت ولكنكِ بدوْت حزينة الآن. الشمس قد بدأت بالمغيب، قلتِ لي بأن الوقت قد تأخَّر وبأن أختك في محطة القطار تنتظر.
التفتّ ناحيتي مرة أخرى> وابتسمتِ ابتسامتك العذبة، المبتهجة والحزينة في آن، ومضيتِ.
***
لستُ جنّيّة قطعاً.
لكنه يقول لي بأني دخلت عليه في الحلم من الشباك. مع أن غرفته في الدور العلوي من المنزل، ونافذته بعيدة عن مستوى الأرض. وقبل أيام عندما التقينا في حلم آخر، في شارع ما، وهو في طريقه إلى العمل، قابلتهُ بجانب السيارة، وبقيت خارجها، وكان بيدي كتاب لم يتذكّر عنوانه، مع أنني لا زلت ألحّ عليه وأصرّ لمعرفته. يقول بأن السيارة تحرَّكت، وأنا بقيت خارجها، وكنت أمشي بسرعتها نفسها من دون جهد يُذَكر.
أحلامه هذه تسعده لكنها تؤرِّقني. هو الذي لا يحلم إلا نادراً صار يحلم كثيراً. أما أنا فما عادت الرؤى تزورني أبداً. شحّ نومي، وشحَّت الأحلام.
حلم آخر كان خَجِلاً منه، ولم يروهِ لي بتفاصيله. الخلاصة أني دخلت عليه من الشباك أيضاً. ألاحظ أني غالباً ما آتيه من خلال نافذة. يزعجني هذا كثيراً، «لست جنّيّة» أقول له. يعجبه هذا، يكرِّر بأنني جنّيّة بالفعل، وإلا ما هو تفسير كل تلك الأحلام. سألته: متى سأزورك من الباب؟ وأجابني بأنه لا يدري. قلت له: سأتوقف عن تلك الزيارات حتى تستقبلني عند الباب. ضحك عليّ. وكنت مبتئسة.
***
عندما رسمتُ قلوب حبّ كثيرة ظهرت في حياتي.
في الأيام التي بدأت فيها برسم قلوب حبّ بأحجام وألوان مختلفة، في خلفية أوراق اجتماعاتي، وملفّاتي الرسمية، ولوحاتي المائية الصغيرة تبدّت لي بشكل غرائبي، لكنه لطيف. أصبحت أراها في كل مكان. حتى الآن، أنا لست متأكداً تماماً كيف بدأ الأمر، لكنه صار بطريقة تشبه السحر. ألم أقل لكم بأنها جنّيّة؟
في أولى محادثاتنا كانت متيقِّنة بطريقة لا تدع مجالاً للشك بأننا سنتزوج. كانت تكلِّمني على هذا الأساس. أقلقني الأمر في البداية، الآن أجده مقبولاً ومحتملاً، بل إنه يجعلني أبتسم، وأفتقده أحياناً إذا لم تحدثني فيه، عن حياتنا المشتركة والأولاد. ذات مرة أخبرتني عن عنوان المدرسة التي سنُدخل إليها أولادنا. ولم أجد ما أجيبها به سوى ضحكة مفتعلة.
لم تقل لي بأنها تحبّني، لم أقل لها بأنني أحبّها. لكنها اختارت المدرسة، وقرَّرت أسماء الأولاد.
تقول لي بأنها ابتاعت عصفوراً ملوّناً. وقلت لها: كان لدي أسماك للزينة ذهبية وحمراء، لكنها ماتت، وكان لديّ الكثير من نباتات الظل، بقيت مزدهرة حتى عندما كنتُ أهملها عن غير قصد، لكنها أيضاً ذبلت وماتت. كانت طاقتي السلبية تخيفني. بعثتها في كل مكان. ضحكت عليّ وأنا متأثر بسبب سمكاتي الذهبيات. كنت أتنهَّد، وهي تتضاحك بشقاوة.
اليوم وعلى الرغم من المسافة الكبيرة وفارق التوقيت بيننا، زهور الحديقة تبدو نضرة أكثر من أي وقت آخر.
***
هل رأيتَ الدم؟
كان يعيِّرني بأني لا أجيد الطهو. ولأثبت له عكس ذلك نزلت إلى المطبخ لأساعد والدتي. اختارت لي أمي سكيناً حادّة بمقبض أحمر مرن. وأنا أُعِدّ السَّلَطة جرحت إصبعي. كان جرحاً عميقاً، وسال الدم كثيفاً، وشعرتُ بالدوار. الخادمة المسكينة أحسَّت بالذنب لأنها لم تجد في المتناول ضمادة لاصقة. هُرِعَت إلى الخارج، وعادت سريعاً. اشتكيتُ من تدفُّق الدم ومن الألم. أمي تدير سواد عينيها للأعلى وهي تنظر ناحيتي، بعد أن التفتت بكامل جذعها صوبي. كانت تقف أمام المغسلة، تهزّ رأسها في حركة تحاول فيها أن تقول: «لا فائدة تُرجى!» وتكرّر على مسامعي بأنها أفسدتنا بالدلال.
تصلني رسالة منه، ويسألني «إن كنت بخير؟» أترك المطبخ إلى بهو الاستقبال، أقول له بأني جرحت إصبعي. أبعث له بصورة. أسأله إن كان يستطيع أن يتبيّن الدم على أطراف الضمادة. أعلم أنه يضحك عليّ من دون أن أسمع صوته ولا قهقهاته، ويردّ هو أيضاً بأنني مدلّلة.
تطلب مني أمي الآن أن أُعِدّ الطاولة. هذا أمر سهل. أضع المناديل المُوَرّدة بعناية وصبر، وأنا أسترق النظر إلي هاتفي بين لحظة وأخرى.
***
سرقة الأحلام.
كانت هناك لوحة لبيكاسو مُعَلَّقة على الجدار. في المقهى الذي جلسنا فيه تناقشنا في موضوع اللوحة. تقول لي بأنها تحبّ المرحلة الزرقاء، لا أخبرها أني لست من عشاق بيكاسو ولا الفن الحديث، سأفسد جمال اللحظة، لذا تركتها تتحدث واصطنعت الاهتمام. في الواقع كنت مشتاقاً لحماسها، وطريقة حديثها وملامح وجهها عندما تسترسل في الحديث عن شيء يثير اهتمامها ويفتنها. وتذكِّرْنا فيلم وودي آلن الأخير، «منتصف الليل في باريس».
أسعدها هذا الحلم. جاء مناسباً لذوقها تماماً. لم يكن منصفاً لي، دون لمسات أو قبلات. 
تقول لي بعد أن أخبرتها بهذا الحلم بأنها صارت لا تنام، لأني أسرق أحلامها!
أرسلت لي منذ قليل أغنية «سرقت النوم من داخل عيوني» وكانت لا تزال في الفراش. وأنا أمام شاشة جهازي أحاول العمل. الأرقام أمامي بدأت تتراقص. أغمضت عيني، فسحة قصيرة جداً، أحببت أن أتخيَّلها، في أول الصباح، مستلقية في فراشها. السماعة البيضاء في أذنيها، وتستمع إلى الأغنية. أحببت أكثر أنها وهي تستمتع إليها، كانت تفكِّر بي. تفكِّر بي، من دون فكرة الزواج، التي كانت تلحّ عليها في بداية علاقتنا.
***
يوم بُهِتَ الكلام.
كانت دموعي تسحّ وأنا بالكاد أتنفَّس. لا شيء سوى الدموع، لا شهقات ولا تنهُّدات. البكاء كما يُحبّه هو ويُفضّله، من دون أدنى صوت. وكان هو غاضباً، وصموتاً كعادته إذا استاء، أو أثار أحدهم حفيظته أو حنقه. أما صديقه فقد ظلّ في الجوار، كان يحاول أن يبيّن له الأمر. صديقه كان منصفاً لي، لكنه رفض أن يسمع.
دخل والدي علينا، تركت الأريكة الخضراء، التي كنت أجلس متأهَّبة على طرفها، واحتضنته. دموعي لا تتوقَّف. كنت أريد لوالدي أن يسندني. لكن لا أحد يستمع، لأنني لا أستطيع الكلام. اكتشفت أني فقدت قدرتي على النطق.
استيقظتُ من النوم هَلِعة، وضعتُ يدي على قلبي، وقرأت آية الكرسي. اعتدلت في سريري، وفكرت في غرابة الحلم. لا أدري لماذا تذكرت قلوب الحب التي كان يرسمها لي قبل أن يلقاني. والورود التي كان يبعث لي بصورها من حديقة منزلهم في بداية تعارفنا.
بعثتُ له رسالة نصية قصيرة أخبره فيها عن الحلم. وبسبب فارق التوقيت بيننا لا زلت أنتظر. سألته لماذا كان مستاءً مني في ذلك المنام؟ ولم يجبني إلى الآن.
***
حلم أخير.
كانت أختي الصغيرة معي في الغرفة. ونشب بيننا عراك لا أذكر سببه. أذكر أن أختي فقدت أعصابها وصارت ترمي الأشياء في كل صوب، وتصرخ، ومن دون أن أشعر بنفسي كنت قد ضربتها، كان شعوراً سيئاً للغاية، أن تصفع فتاة ضعيفة.
تركتُ البيت بعدها. وكانت هي وراء الباب. وإصبعها كان مضمَّداً. مرّ زمن طويل على حادثة جرح إصبعها، واستغربت أنها بمجرد أن أزالت الضماد عاد الدم للتدفق وكأنها قد جرحته للتوّ. شعرت بالسوء أيضاً لأني قلت لها سابقاً بأنها مدلَّلة، عندما اشتكت لي من الجرح. يبدو لي الجرح الآن أعمق مما ظننت.
عدت إلى الداخل لأجلب لها قطناً نظيفاً ومحارم ورقية. وعندما دخلت لم أجد أختي، ووجدت المكان نظيفاً ومرتباً، ورأيتها هي من وراء نافذة المطبخ. طلبتُ منها أن تدخل، لكنها قالت بأن المسافة بيننا طويلة وبأنها متعبة.
اتصلت بها أكثر من مرة اليوم، لكنها لم تجب. ورسائلي، أرى بأنها تستلمها وتقرؤها، لكنها أيضاً لا تردّ. سألتها عن إصبعها، لكن لا شيء.
***
سئمتُ من التحديق في السقف.
كتبتُ له رسالة على عجل، أخبرته فيها أني سئمت من التحديق في السقف المرتفع والخالي، وأننا إذا تزوجنا فإنني أرغب أن يرسم لي على بياضه. واقترحت ملائكة صغاراً، ببشرات وردية وأفخاذ ممتلئة بالعافية، يشبهون ملائكة رافائيل في وداعتهم ونضارة وجوههم. في الواقع، سأقبل بأي شيء، حتى لو كانت وحوش فرانسيس بيكون! طالما أنها ستشغلني وتسليني في ليالي الأرق الطويلة. وسألته في نهاية الرسالة إن كان قد حلم بي البارحة.
ضغطت على زر الإرسال، وحاولت أن أنام، لكنني لم أستطع، وأعدت قراءة رسالة كان قد كتبها لي قبل أيام. سرد لي فيها حلماً رآني فيه. كنا نمشي في بستان يقول، وكانت هناك شجرة ضخمة ذات ثمار يانعة وقفنا تحت ظلها. ثمارها كانت غريبة، ذات لون برتقالي غير مألوف. يقول بأنه كان يقطف لي وأنا آكل بنهم حقيقي، حتى أتينا على كل الثمار في تلك الشجرة.
فكرت بالشجرة المحرَّمة الآن. لم يخطر لي هذا من قبل، وشعرت بالأسى.
***
قُبلاتها مقابل أحلامي!
كنت أظن أني صرت أعرف تماماً كيف أغويها. قلت لها سأتناول حبوباً منوِّمة لضمان نوم عميق وأحلام أكثر وضوحاً وصفاءً. لم تضحك عليّ، ولم تجد الأمر طريفاً. لكني أردت أن أعقد صفقة مربحة معها، قُبلة مقابل كل حلم.
قالت إنها ستعطيني القبلة فقط، وفقط إذا أعجبها ما أروي. وكان هذا غير عادلاً، لكن حيلتي ضعيفة أمامها الآن، وصرت أقبل بأي شيء مهما بدا قليلاً. فلقد مرّت أيام طويلة منذ آخر رسالة استلمتها منها، كانت تحدثني فيها عن عصر النهضة وشياطين فرانسيس بيكون. ألم يعجبها رأيي في صاحب اللوحات المريعة ذاك؟
ما عادت تردّ على رسائلي. أستجديها، ولكن لا شيء. أفكر بأنها قد تكون منهكة، لقِلَّة النوم، أو ربما بسبب فارق التوقيت بيننا.
______
* مجلة (الدوحة)

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *