محطات إبراهيم نصرالله:سيرة العمر الطائرة




*محمد إسماعيل – دبي

سفرة استثنائية تختصر مسيرة حياة.. يطوف صاحبها بين محطات العمر السعيدة والتعيسة، هذا ما فعله الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصرالله في «السيرة الطائرة.. أقل من عدو.. أكثر من صديق»، التي توهم القارئ في البداية بأنها ليست أبعد من رحلة، تبدأ من نقطة ما، لتصل إلى أخرى، وبين النقطتين ثمة صفحات ملونة بأدب رحلات، ويوميات مشوقة خفيفة الروح، عن البشر والأمكنة وثقافات العالم.

تتفرع الحكاية في كتاب «السيرة الطائرة»، ويأبى قلم المبدع إبراهيم نصرالله أن يسير وفق توقعات، فتتحول الرحلة إلى رحلات، والوجهة الواحدة المبتغاة إلى مدن في جهات العالم الأربع، كما تحضر هموم وأشواق فردية وجماعية، وفي القلب منها وطن قريب ـ بعيد، يسمى فلسطين، وناسه الموزعون في بلاد الله الواسعة.
يبوح صاحب «زمن الخيول البيضاء» في «السيرة الطائرة» بالكثير، يكشف عن ابن مخيم حلم بأن يدرس الموسيقى، ولم يستطع بعد رفض الأهل الذين أبوا أن يكون الفتى موسيقياً، فحاول أن يلتحق بأكاديمية بحرية لتكون له في موانئ العالم حكايات، وأيضاً لم تمكنه الظروف من ذلك، فانتظر حتى ينهي تعليمه في معهد المعلمين التابع لوكالة غوث لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، لينطلق في الأرض، ليرى الزعيم جمال عبدالناصر، أو ما طالعه على الشاشة السحرية في الأفلام، فيرتحل باتجاه روما أو باريس أو مانهاتن، فإذا بالسفرة الأولى تكون إلى موطن «براري الحمى»، حيث عمل معلماً في إحدى البلدات النائية التابعة لمدينة الطائف السعودية، ويمر بتجربة شديدة الخصوصية هناك، سجل جزءاً منها في روايته الأولى.
لم يعد نصرالله من «الصحراء» خالي الوفاض، إذ رجع بتجربة «براري الحمى»، وسنحت له تلك الفترة بقراءات طويلة: «لقد تفتحت روحي في حديقة طاغور، طاغور الذي بدا لي أقرب ما يكون لقديس أو نبي منه إلى شاعر. أقرأ أشعاره وسيرته وتفتتني رقته مع الطبيعة، وأتخيله يسير وكل الكائنات تلتجئ إليه لتختبئ تحت عباءته: العصافير والصقور، الغزلان والنمور، الفراشات والصبايا الجميلات والغيوم أيضاً. أما جائزة نوبل التي لم يكن اسمها يلفت انتباهي، فقد كان لها معنى وحيد: طاغور فاز بها».
في الرحلة إلى كولومبيا للمشاركة في مهرجان شعري، يفاجأ إبراهيم نصرالله بأن من بين المدعوين الفائز بجائزة نوبل للأدب وول سوينكا، ويسرد في «السيرة الطائرة» حوارات جمعته خلال رحلة الوصول إلى المؤتمر بسوينكا، ويعرض جانباً من شخصية ذلك المبدع النيجيري. كما يصادف نصرالله أيضاً خلال الرحلة ذاتها الشاعر المصري الراحل حلمي سالم، وكثيرين ترد أسماؤهم في الكتاب الذي صدر عن الدار العربية للعلوم – ناشرون في 297.
في محطات الكتاب المتعددة، تبرز أيضاً محطة نابولي التي وقّع فيها إبراهيم نصرالله أحد أعماله المترجمة إلى الإيطالية، واللقاءات التي أجراها في أماكن عدة في المدينة، من بينها لقاء في إحدى المدارس الإعدادية، ويفاجأ صاحب «قناديل ملك الخليل» بكمِّ الحضور، والإنصات الذي يغلفهم، وبعد ذلك تفاعلهم مع حديثه الذي تنوع بين الشعر وفلسطين وأهلها وزيتونها، وكيف أن هناك دولة أخيرة في هذا العالم مازالت محتلة، وثمة طلبة مثلهم، يكافحون من أجل الوصول إلى مدارسهم، يفوتون على معابر وجنود مدججين بالسلاح وتنتظرهم أمهاتهم على الطرف الآخر من الجدار العازل، لكي يطمئنن عليهم في نهاية اليوم.
تحمل «السيرة الطائرة» محطات كثيرة، منها زيارة الوطن بتصريح وتفتيش، يكتب نصرالله عن تجربة العودة إلى أرضه، إلى بيت لحم والقدس وبقاع أخرى في فلسطين، يكشف عن خفايا رواياته وقصائده، ومراحل المخاضات التي رأتها العديد من إبداعاته، يبين كيف كتب «أعراس آمنة» التي تدور أحداثها في رام الله، و«تحت شمس الضحى» التي تجري أحداثها في غزة، مبدياً سعادته الكبيرة، حينما قال له أحد الأصدقاء «كأنك تعيش بيننا»، فيقول نصرالله: «كم يسعد المرء إحساس كهذا، كم يسعده أن كل تلك القوة لم تستطع طرد روحه من المكان وأشواقه من سهول قمحه وبيارات برتقاله وكروم زيتونه».
______
*(الإمارات اليوم)

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *