حاوره : توفيق عابد
عز الدين مناصرة شاعر وناقد وباحث يطلق عليه تحببا “المتطهر الثوري”، يجبرك على الصعود لصومعته. وذات مرة قال الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار “سأعترف.. كنت أعتبرك نرجسيا متضخم الذات وشرسا لكنني اكتشفت أنك إنسان نبيل ومثقف كبير”.
وقد حاز المناصرة جائزة القدس مؤخرا من الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وصدر له 11 ديوانا شعريا و18 مؤلفا في النقد والفكر والتاريخ، منها “علم الشعريات” و”الهويات والتعددية اللغوية” و”السماء تغني” و”موسوعة الفن التشكيلي الفلسطيني” و”النقد الثقافي المقارن” وآخرها “الثورة الفلسطينية في لبنان”.
وتاليا نص الحوار:
لننطلق بداية للحديث عن الحالة الثقافية بالأردن والوطن العربي.
الثقافة حاليا والمثقف ليس له أي دور في التغيير على الإطلاق، فقد اخترق المثقفون من قبل العولمة التي تركز على محو الهوية الوطنية والانفتاح على ثقافة الاستهلاك وتحويلنا نحن العرب لمجرد مستهلكين لهذه الثقافة حيث لا أحد يعرف نجيب محفوظ حاليا من الشباب بينما يعرفون فيفي عبده بشكل ممتاز.
وقد أجرينا تجارب على طلبتنا فلاحظنا انحطاطا في التعليم حيث تحولت الجامعات العربية إلى مدارس ابتدائية عليا، وهذه حقيقة أقولها لوجود إجماع بين معظم الأكاديميين.
والمسألة أن المثقفين أنفسهم أصبحوا انتهازيين بجدارة، ويبقى المثقفون الجذريون شبه معزولين لا يستمع لهم أحد ولا يؤثرون في محيطهم السياسي والمعرفي والاجتماعي.
كان تشومسكي وهو عالم يهودي متخصص في اللسانيات، يقود مظاهرات ويدلي برأيه في السياسة الإسرائيلية ولكن حتى الفلسطيني إدوارد سعيد انتقل للاختصاص المغلق “الأدب المقارن” والثقافة والسياسة ولم يعد فصل السياسي عن الثقافي مسألة منطقية.
صحيح أن الثقافة الحالية ممتعة وكرنفالية وذات دعاية ضخمة لكن في صباح اليوم التالي تنساها.
يرى البعض أن الثقافة العربية تحتاج لثورة بيضاء.. ما رأيك؟
غلاف كتاب الثورة الفلسطينية في لبنان (الجزيرة نت)
لا تكفي ثورة بيضاء سلمية بل على المثقفين الطليعيين أن يقولوا الحقيقة كما قال إدوارد سعيد، وأنا أقول يجب أن يضع المثقفون أصابعهم في عيون السلطة ويصارحوها بأنها أحد أسباب الانحطاط لأنها تمتلك كل شيء ولها أدوات قوية لا يستطيع المثقف الطليعي أن يجاريها.
ولذا لا يكتشف المثقف الطليعي إلا بعد فترة أو يكتشفه المثقفون الشرفاء ووسائل الإعلام الشريفة فقط. وشخصيا أؤيد حدوث ثورة بيضاء تصاحبها ثورة حمراء لغويا وليس دمويا بمعنى أن تطرح أسئلة أكثر جرأة مما هو حادث حاليا.
من وجهة نظرك، هل تصنع الثقافة الحالية جيلا واعيا أو تبني فكرا؟
عمليا تصنع جيلا ضائعا تائها، وأنا أطلق على طلابي الذين أراهم كل يوم في الجامعة وأبنائي هذا الجيل ضائع ويقولون إننا جيل ثقافة المقاومة وتصفنا بأننا جيل المبادئ المهزومة هذا صحيح لكن رغم ذلك جاء الفراغ فعبأته العولمة.
هذا الجيل ضائع لكنه يكتشف نفسه تدريجيا، فهو خطر وليس ساذجا أو سطحيا كما يتصور البعض، بل يميل لتلخيص الأشياء ويبدأ بالأسئلة بعد أن يستهلك الشائع والسائد والمسيطر عليه الذي تضخه وسائل الإعلام ليكتشف أشياء لم يكن يفهمها جيدا.
فقد اعتقدت أن كتابي “الثورة الفلسطينية في لبنان” يهم الجيل الذي عاش الثورة لكنني اكتشفت حسب الناشر أن معظم الذين اشتروه من الشباب الذين يريدون فهم تلك الفترة.
فابني “لطش” مسودة الكتاب واكتشف أنني كنت فدائيا فكان يمازحني بكلمة “خربتوها” والآن تريدون تلبيسنا إياها، لكنه حين قرأ الكتاب تغيرت وجهة نظره بأننا قاومنا بشرف لحماية لبنان من الخطر الإسرائيلي ومخيمات الفلسطينيين في معارك بطولية وزرعنا المقاومة في لبنان وتلقفها لبنانيون آخرون وورثوها ونحن سعيدون بذلك.
الجيل الحالي ينطلق مما هو شائع وما تضخه وسائل الإعلام ثم يبدأ بطرح الأسئلة الحقيقية، وقد يبحث عن وسائل التغيير لأنه يمتلك أدوات جديدة أكثر من جيلنا. فالتكنولوجيا من وجهة نظري لا تصنع عقلا والحاسوب لا يصنع عقلا، وإنما هي أداة ممتازة لكي يبدأ الشخص بالبحث والتفكير، أما الذين يؤلهون الحاسوب فأنا أطلق عليهم “عبد الحاسوب”.
مشكلتنا نحن العرب أننا نتلقى الموضات والأشياء الحديثة من الغرب، ففي الأدب ظهر منهاج جديد مصدره فرنسا بالتحديد كالبنائية والإشكالية، والغريب أن مثقفينا ينتظرون فرنسا بفارغ الصبر لكي تنتج لهم منهاجا جديدا يستقبلونه ويتعاملون معه كموضة وليس من موقف نقدي.
“
المثقفون الفلسطينيون جميعا هم نتاج منظمة التحرير الفلسطينية
“
هناك صراع المثقف والسياسي، من وجهة نظرك لماذا يتراجع المثقفون دائما؟
إن الطليعيين والمثقف الجذري قلة، قد يتم التعتيم عليهم ومحاربتهم في البدايات ولكن في النهاية يضطر السياسي للاعتراف بهم لأن أفكارهم قد تشيع عبر الطرف الشعبي “القارئ”.
فالصراع بين المثقفين والسلطة في الغالب يكون بين الكبار، “المثقفون الكبار يصارعون السلطة”، وبعضهم يلتف حول المسألة بشيء من المرونة لأن السلطة تفضل المثقفين من ذوي الحلول الوسط ينحنون حتى تذهب العاصفة.
وهناك الأغلبية المبحوحة الصامتة وهي ضائعة كان يمكن أن تشكل طبقة عازلة بين المثقف الجذري والسلطة لكنها لن تحمي المثقفين الجذريين بدلالة توقيفنا في الحدود وإبعادنا من بلدان وتشريدنا مع عائلاتنا، ولم تحتج هذه الجماهير الصامتة ولم يخرج تيار تعليمي من منطقة الوسط للتأثير على السلطة ويجبرها على مراجعة مواقفها.
ميزتي أن أكون معارضا “ولدت معارضا”، وجاءت الحياة لتثبت ليّ صحة موقفي، فلا أستطيع بعد 65 عاما أن أكون جزءا من السلطة، وبالمناسبة كلما كنت مرنا وتقترب من السلطة ابتعدت عنها وتكتشف أكثر شقاءك المعرفي وتبدأ بمراجعة مواقفك وتعاني من العزلة الإيجابية أو المرارة.
أنت بوصفك مثقفا طليعيا وصاحب موقف سياسي، ما الثمن الذي دفعته؟
المثقف الفلسطيني حالة خاصة في العالم لأنه لا يعيش في وطنه ولا يستطيع التصرف بوصفه فردا يناطح دولا. أنا ناطحت دولا فقد أجبرت وكالة غوث اللاجئين (أونروا) عام 1995 على إعادة فتح كلية العلوم التربوية وفصلت، لكنني حصلت على قبلة من عجوز في ساحة الكلية عندما سلمت مهامي لشخص آخر، وقالت: هل أنت العميد الذي صنع المشكلة وقلت لها “أنا ذاهب إلى البيت”.
كما قال الصحفي الأسترالي كليفتون مراسل نيوزويك في بيروت وكتبها لاحقا “مشكلة الفلسطيني على ما يبدو أنه فلسطيني فقط”، فالحدود تتعامل معك كحالة أمنية وحتى لو حملت جواز سفر آخر فهم ينبشون عن أجدادك.
وموقفي بوصفي مثقفا أنه لو اعترف العالم العربي بشرعية إسرائيل سأظل الهندي الأحمر الأخير فلن أعترف حتى أموت. وبتقديري أن إسرائيل تحتاج فقط لاعتراف الفلسطينيين أصحاب الأرض الحقيقيين ولن أمنحها الشرعية.
أما في العشرين سنة الماضية فقد ازدادت فوبيا الهوية عندي لدرجة أنها تؤثر على صحتي، فأنا لا أنظر للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية سياسية وإنما بوصفها قضية وجودية يومية.
عقب رحيل محمود درويش قيل إن قضية فلسطين أصبحت يتيمة شعريا، ما رأيك؟
صورة أرشيفية تجمع درويش (يسار) وإلى جانبه الشاعر عبد الكريم الكرمي “أبو سلمى”
(الجزيرة نت-أرشيف)
الذين يقولون هذه العبارة هم وكلاء ثقافة الاحتلال بالتحديد، فثقافة الشعب الفلسطيني وفلسطين نفسها أكبر من محمود درويش ومني ومن كل شعراء فلسطين، فلا يجوز شطب الثقافة الفلسطينية وتلخيصها في شخص واحد.
وأقول استدراكا أنا كنت الصديق الأقرب لمحمود درويش في بيروت طيلة عشر سنوات بل كنت ومعين بسيسو الحليفين الحقيقيين له، لكن اختلفت معه في بعض المحطات حول ازدواجية موقفه السياسي وطبيعة الحوار مع المثقفين الإسرائيليين.
وفي منزله في عمان قال لي: “كلامك صحيح 100% أنا مجبر على ذلك لأنني أذهب لفلسطين 1948″، وقال إن المثقفين الإسرائيليين كذابون حتى في حواراتهم ولكنه في الظاهر كان عكس الكلام ويقول كلاما آخر. هذا التناقض جعلني أغضب إحدى المرات وقلت “محمود درويش ليس الشاعر الأوحد للشعب الفلسطيني”، وهناك من يريد تصنيم شخص على حساب ثقافة شعب بأكملها.
الإشكالية ليست مع محمود درويش وإنما مع عقل السلطة الذي كان يريد أن يحتمي بهذا الرجل. ومحمود درويش كما هو معروف ليس للسلطة بل للشعب الفلسطيني.. شاهدته مرة في التلفزيون يقرأ شعرا للأجهزة الأمنية في رام الله وعاتبته وكالعادة برر ذلك بأساليب متعددة.
فقصيدة النثر رائدها فلسطينيان هما جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صائغ، فاليتم هو للسلطة اليتيمة التي لا أحد معها وبالتالي تحاول لملمة الأوراق ومحمود درويش لصالحها.
هناك بعض التصنيم لمحمود درويش من بعض المثقفين المنتفعين في العالم العربي الذين يتقاضون رواتب من السلطة عبر محمود درويش، ففي وقت يتقاضى مراسل في بلد أجنبي ثلاثة آلاف دولار من مجلة فلسطينية لا يجد مثقفون فلسطينيون ما يأكلونه.
ولكن السلطة الفلسطينية حددت يوم 13 مارس/آذار عيدا للثقافة الفلسطينية وهو عيد ميلاد محمود درويش.
إن تلخيص الثقافة الفلسطينية في شخصية واحدة أمر خاطئ، وإذا كان كذلك فلماذا لا يكون عيد ميلاد الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود أو غسان كنفاني أو إبراهيم طوقان أو ناجي العلي أو أبو سلمى أو عبد الكريم الكرمي مع تقديرنا الطبيعي لأهمية محمود درويش.
“
هناك بعض التصنيم لمحمود درويش من بعض المثقفين المنتفعين في العالم العربي الذين يتقاضون رواتب من السلطة الفلسطينية
“فلا يجوز لثلاثة أشخاص هم رئيس السلطة ورئيس الوزراء وأمين سر اللجنة التنفيذية أن يقرروا إلا بعد استشارة المثقفين، ومن هنا أطالب بأن يكون عيد الثقافة الفلسطينية في 28 مايو/أيار وهو تاريخ تأسيس منظمة التحرير عام 1964 ليصبح عيدا للجميع، فالمثقفون الفلسطينيون جميعا هم نتاج منظمة التحرير الفلسطينية.
نظمت قصائد نثرية لكنك وصفت القصيدة النثرية بالخنثى.. ألا يوجد تناقض ما؟
لقد شعرت بعد صدور آلاف من كتب قصيدة النثر أنها أصبحت تميل لتبريد اللغة ومحو الهوية وتتجه للتشابه مع القصة القصيرة جدا بسرديتها العالية وتمتلك أيديولوجيا العولمة وتصل لما أسميه “النص الكشكولي” أي المفتوح على الأنواع الأدبية لكن كتابها يصرون على لقب شاعر بالمعنى التقليدي.
والمشكلة أننا فقدنا الجمهور لدرجة موت الشعر ولم تعوض قصيدة النثر التي فقدت متعة الإيقاع هذا الفقدان. أما وصفي لقصيدة النثر بأنها خنثى فقد قصدت منه وجود كمية من الأنثوية فيها لا أكثر ولا أقل.
بعد رحيل أي مبدع تنشط جهات لتكريمه، فهل نحن أمة تمجد موتاها؟
أوافق تماما على هذه الملاحظة المهمة.. كأننا في مجالس عزاء نتذكر محاسن الشخص فقط بعد موته وفي حياته نحاربه، فتسجيل ثقافة الموت شيء عجيب.. نحن مع تكريم الشخص بعد رحيله، وفي الحياة لماذا لا نمجد جانبه الإيجابي. فمنذ عشرين سنة أحاول نشر مجلد أعمالي الشعرية في فلسطين ولم أستطع بينما صدرت ثمان طبعات في المنافي التي لا تعترف بالمثقف الفلسطيني.
بعد هذه الرحلة الطويلة بمحطاتها، بماذا تحلم بوصفك مثقفا جذريا؟
سأواصل ثقافة المقاومة حتى الرحيل فإما إلى القبر وأما إلى فلسطين كما قالت ليّ زوجتي عندما انتقلنا لبيت جديد من كثرة الترحال لن أذهب لبيت آخر، وسأواصل كتابة النص قدر الإمكان والقضايا الحساسة التي أحب أن أفجرها وسأترك لأبناء شعبي شيئا مجزيا.
عقب كتابك الذي طالبت فيه بإعادة تأريخ فلسطين، ماذا في جعبتك؟
هناك مؤلف قيد الطبع بعنوان “بالحبر الكنعاني نكتب لفلسطين وللدم أيضا”، وهو تصحيح لشعار قديم للدم نكتب لفلسطين، يضم مجموعة من الدراسات في تاريخ الثورة الفلسطينية من معركة الكرامة التي كانت تروى رواية أحادية فلسطينيا أو أردنيا.
وبه أيضا تصحيح الشائعات والأكاذيب من خلال ما أعرف وما شاهدت بشأن حرب طرابلس عام 1983 التي بدأت بحركة احتجاجية مشروعة “انشقاق في حركة فتح”.
– الجزيرة