*كمال الرياحي
( ثقافات )
أعادت رواية “حمام زنوبيا” للسوري رياض معسعس الناقد الشهير توفيق بكار إلى تقليد التقديمات التي يضعها لإهم اعمال الأدبية في سلسلة “عيون المعاصرة” فنحت لها تقديما تحت عنوان “من قصص العذاب رواية الميت الحي” يقول فيها” محنة أهل الشام منذ أحقاب بحكام لا يجيدون من أساليب السياسة في هذا العصر الا شدة القهر والبطش الرهيب. عتاة شداد سطوا عليه بالعنف غرة واستبدوا بالنفوذ فيه آمادا، وسلبوه حقوقه والحريات، ونهبوه واستأثروا وذويهم والموالي بالمنافع والخيرات.ودعواهم بعد”البعث” و”الاشتراكية”حرصهم على أمن الدولة والعدو الصهيوني مرابط على الحدود يتربص بنا شرا.”
والحق انه في ظل تراجع حماسة القراء إلى الكتب المتعلقة بالربيع والعربي من ناحية واسم الكاتب المجهول في تونس لم يدفع القراء في تونس لقراءة هذه الرواية غير اسم توفيق بكار على غلافها، وهذا الاسم هو من سيحمي العمل الروائي طيلة عملية القراءة للثقة التي تربطها بخيارات بكار، خاصة بعد تراجع مستوى ما ينشر في السلسلة من سنوات قليلة.
التوطئة المخاتلة : المعسعس أنا لست أديبا
أهدى الكاتب السوري كتابه ” الى الشهيد البطل محمد البوعزيزي مفجر الثورات العربية الكبرى ضد الطغيان” وصدرها بقوله: “لو لم يتبق لي من العمر سوى ثلاث كلمات لقلت:الحرية الحرية الحرية”. وكما جرت العادة في “أدب الكتابة عن الذات” في أن يصدر الكتاب سيرهم بكلمة يكشفون من خلالها عن دوافعهم لتدوين ونشر تلك الاعترافات، وضع رياض معسعس كلمة بدئية أكد فيها أن ما سيرويه حقيقة وانه لا يروم منه مكانة في دنيا الأدب ولا نحت اسم في ذلك العالم انما كل غايته ومطمحه هو ” إيصال هذه السيرة المعيشة التي تقترب كثيرا من سيرة ذاتية، مع شيء من الرومانسية، الى القارئ. فمعظم أحداثها من الواقع المعيش من قبل الكاتب، أو من قبل مقربين إليه” غير أن متن تلك الوقائع هي التي تجعل من كتابتها موضوعا يستحق أن يقرأ كما استحق أن يكتب، فالكتاب كما يقول الكاتب يعكس” صورة سوريا في فترة من أحلك فترات تاريخها. بدءا بالنكبة في عام 1948 والانتهاء بمجزرة سجن تدمر الرهيبة في العام 1980 “.
ويضيف في مكان آخر من توطئة أن الغرض من الكتابة ليس أدبيا انما ” مجرد شعور عميق وملح لإبراز حقيقة مرة في جميع مقاييسها عاشها الشعب السوري في معاناة يومية تحت وطأة الظلم الثقيلة، والقمع المريع، وسطوة الأجهزة الأمنية “.
غير أن التأكيد على غاية تسجيل الوقائع والتنصل من أي طموح أدبي يدفع القارئ الى التساؤل: ما الذي حال دونه ودون تسجيل كل ذلك في كتاب سيري خالص أو تاريخي أو صحفي ولماذا توجه بكتابه لأشهر سلسلة أدبية عربية لم تنشر إلا للأدباء أو الطامحين إلى ذلك؟ ولماذا قبلت به السلسلة وأقدم مشرفها وباعثها على التقديم له بنفسه لولا توفر شرط أدبيته؟ لذلك نأخذ هذه التوطئة على محمل الخديعة الفنية التي تذكر بأول غايات الرواية وهو ” الإيهام بالواقعية”.
قاووش أو فضاء التعذيب الحر
تبقى الرواية، في مجملها، وفية لتيمتها التي فضحها الكاتب في التوطئة فهي ليست سوى شهادة دقيقة على الوضع في السجون السورية وفنون التعذيب فيها يرويها شاهد عيان مر بتجربة فظيعة مع الاعتقال في أكثر من مناسبة، ولكن الرواية وهي ترسم تلك الصورة البشعة لواقع الانسان في سورية تحت حكم الدكتاتوربة تستنجد بالتاريخ القديم والحديث لتحكي أصالة تلك الفظاعة وعمقها، فالاستبداد الشرقي قابع في سورية راميا بجذوره إلى أبعد أعماق أرضه والقمع عريق عراقة تاريخها فقد كان القمع والحضارة امران متلازمان يسيران في خطين متوازيين.
من حمامة زوسكيند إلى فأر المعسعس
يقص الراوي حكاية نجاته من المعتقل ويرجع الفضل في ذلك إلى فأر اخترق الجدار واكتشفه صدفة فراح يتبع خطاه مع رفيقه” أبو ثائر” ليوسعا من الثقب الذي دخل منه. هكذا يقدم لنا المعسعس صورة سريالية للحياة هناك ولعبثيتها فيتعلق السجين بأثر فأر لينجو من بطش طاغية. إن استجارة البطل بفأر وربط علاقة حميمية معه جعله يتقاسم معه طعامه لمعاودة الحفر من جديد لتوسيع ثقب الضوء يشحن القارئ بأحاسيس غريبة مناقضة تماما لما شعر به عند قراءة “حمامة” زوسكيند التي حطمت أمن البطل وعزلته الاختيارية.
لقد تحول الفأر من مجرد مؤنس في الزنزانة إلى رفيق يساعد السجين على حفر المهرب كما كان دليلا له ومرشدا لاتقاد حواسه واستشعاره لموعد وصول السجان للتوقف عن الحفر واخفاء فجوة الجدار. ونحسب أن قصة الفأر التي لم تأخذ من الروايات سوى صفحات قليلة كان يمكن أن تكون هي الرواية كاملة ولكن الرواية العربية مازالت تتخبط في الأصوات العالية التي تمنع كتابها من الانغماس في تخييل وتحليل التفاصيل كما كان الأمر مع زوسكيند في”الحمامة” أو رواية “النفق” لارنستو ساباتو ومازال بعض روائيينا يراهنون على الكم الورقي لاقناع أنفسهم أن ما كتبوه مهما.
ينخرط هذا النص رأسا في أدب السجون من ناحية وأدب الملاحم من جهة ثانية وهذا التصنيف لا يعلي شيئا من القيمة الأدبية للنص الذي ظل عملا بكرا يعكس موهبة واضحة في الحكي لا يمكن أن ننكرها على الكاتب ولكن المنبرية التي ظهر بها النص أحيانا بدت ثقيلة ومتكلفة وفجة، ننتظر أن تخفت في الجزء الثاني الذي وعد به الكاتب قراءه. ولكن قراءة الرواية في ضوء توطئتها المتنصلة من أي نية في اجتراح مكانة في عالم الأدب تغفر للكاتب بعض الزلات وإن أخذناها على محمل المخاتلة.
ويبقى فضل هذا العمل في رصد فترة حالكة من التاريخ السوري من ناحية ونشره في تونس ضمن سلسلة “عيون المعاصرة” يعيد السلسلة إلى سالف عهدها لتنشر لأصوات عربية غير تونسية وتخوض لأول مرة تجربة نشر الأعمال البكر لغير التونسيين.
_____
* أديب من تونس