رامبو .. البرا ء ة الضّا ئعة


* محمّد محمّد الخطّابي

( ثقافات )

يعتبر الشاعر الفرنسي ” أرثور رامبو” ( 1854- 1891) من شعراء فرنسا الكبار على الرّغم من أن يد المنون اختطفته في سنّ مبكّرة بعد أن تجاوزالثلاثين من عمره بقليل .
يعتبر هذا الشّاعر وأعماله الشّعرية على وجه الخصوص من المغامرات النادرة ، والرّائعة، والمحيّرة التي تميّز إبداعات الأدب العالمي خلال القرنين الماضيين .
كيف يمكن أن يصدر شعر في هذا المستوى من الرقّة، والصّخب، والبلاغة، والسّحر، والجمال، والتأثير عن شاب لم يبلغ العشرين من عمره.. ؟! ،كيف يمكن أن يصبح عبقريا ،وهو في هذه الحداثة.. ؟! كيف يمكن أن يشكّل من حياته وأعماله أسطورة في ظرف سنوات معدودات من حياته ..؟ ! إنّ مثل هذه الأسئلة تتبادر إلى الذهن عند تصفّحنا لمعظم ما كتبه وخلّفه لنا هذا الشاعرالمحيّر، أوما كتب عنه من دراسات وكتب وتآليف ، ذلك أننا نجد أنفسنا أمام حالة إبداعية خاصّة وخارقة ، ونوعية متميّزة وفريدة فى بابها فى الخلق الأدبي الخالص الذي لا تشوبه شائبة، بل إنّه يعتبر المادّة الأساسية ذاتها للشّعر كصوت مدوّ في الآفاق ،أو كرجع يسمع صداه في عمق الصحراء.
إبداعات مبكّرة
الأصول التي استقى منها ” أرثور رامبو ” كمصادر لشعره وإبداعاته متعدّدة ومتنوّعة بدءا بمحيطه الدّراسي المبكّر في المدينة التي كانت مسقط رأسه وهي ” شارلفيل” الواقعة بين باريس وبروكسيل حيث كان لمعلمه ” جورج ايزامبارد” الذي أقام معه صداقة مبكرة عام (1870) نظرا لعلامات النبوغ التي لمسها في الصّغير “رامبو” خلال تدريسه إيّاه لمادّة البلاغة، أو موادّ أدبية ولغوية أخرى.كان أستاذه يعيره كتبا كثيرة، وكان رامبو يلتهمها بشراهة، كتابا تلو الآخر، مثل كتاب ” البؤساء ” لفيكتور أوغو حيث قرأ هذا الكتاب خفية عن أمّه.
عندما تقدّم رامبو لمسابقة أكاديمية أدبية عام (1869) قال عنه مدير مدرسته بعد أن حصل على الجائزة الأولى في هذه المسابقة : “شئ غير عادي يعشعش، أو يتولّد في عقل هذا الفتى، عمّا قريب سيتفتّق هذا العقل عن عبقري الشرّ أو عن عبقري الخير” ..!
كما تأثّر رامبو بالشّاعر الفرنسي الكبير “شارل بودلير ” صاحب “أزهار الشرّ”حيث كان يطلق عليه لفرط إعجابه الكبير به ب:” ملك الشّعراء”. أمّا ” فيكتور هوغو” فقد كان يطلق على رامبو الصغير بعد أن تعرّف عليه وأعجب به ب : “شكسبير الطفل”..!
هذا ومن مصادر تأثيراته كذلك المبكّرة بشكل خاص العلوم الغيبيّة التي علقت به، والتي كانت تشكّل بضاعة نشاطه الفكري في شرخ عمره. فضلا عن الحياة المتقلّبة والغامضة التي عاشها، وقد غرف وتغدّى شعره بمختلف هذه التأثيرات التي ضمّنها مختلف قصائده، ورسائله، ووثائقه، وكتاباته ، وإبداعاته.
وفي معرض الحديث عن التأثيرات التي كوّنت قريحة رامبو، وصقلت موهبته الشعرية يغفل غير قليل من الدارسين والنقاد تأثير ” دانتيه ” عليه فضلا عن الشّعر الرومانسي والإنجليزي ، مثل كولاريدج ،وبليك ،وبودلير وسواه من الشّعراء الفرنسييّن من بني طينته بشكل خاص.
حياة “رامبو ” في طفولته وشبابه لم تكن بالأمر العادي، بل إنّه عاش هذه المراحل من عمره بمرارة وقسوة وجفاء نظرا للصّراع العائلي الحادّ الذي ميّز حياته، حيث كان كثير الفرار من منزله ،وكانت أمّه لا تتوانى في ضربه، وإهانته، أضف إلى ذلك هجران والده لأمّه، وعدم الاكتراث بها، يضاف إلى ذلك مرحلة خروجه إلى باريس وتعرّفه إلى الشاعر “فيرلين”، ثمّ أخيرا هروبه من العالم المتحضّر!.
لقد كان رامبو يتميّز بطبع فوضوي، قلق، وناقم ، وكانت به طاقات معرفية هائلة، وإمكانات كبرى لتقبّل العالم . ففى خريف (1871) وصل “أرثور رامبو “إلى باريس بدعوة من “فيرلين” الذى فوجئ عندما وجد نفسه وجها لوجه أمام شّاعر غضّ الإهاب، طريّ العود الذي لم يكن يتجاوز سنّه 17 ربيعا ، وهو يرتدي رثّ الثياب، وبالي الأسمال ، ولا يبعث منظره على الرضى والإطمئنان.
لقد تنكّرت الأوساط الإبداعية، الأجواء الأدبية في باريس لرامبو ولأشعاره وأعماله. بل لقد تنكّر له فيما بعد حتى ” فيرلين” نفسه، ولم يجد رامبو بدّا ولا ملاذا سوى الفرار لإنقاذ نفسه وشعره وعبقريته.
الفرار إلى المشرق
أمّا المرحلة الأخيرة من حياته فقد قضاها وهو يجوب جبال الألب مشيا على الأقدام عدّة مرّات مسافرا بين ربوع أوربا ، منضمّا تارة إلى الجيش الإسباني الكارلى ، وهاربا طورا منه. وتأتى بعد ذلك مرحلة الإنتقال إلى الشرق العربي (القاهرة، الإسكندرية، حيفا، اليمن ) بل إنّه وصل حتىّ الحبشة.
كان رامبو يتمتّع بقابلية غريبة، واستعداد كبير لتعلّم اللّغات ، فتعلّم عددا منها، من بينها اللغة العربية ، وظلّ متنقلا بين البلدان، وقد زاول عدّة أعمال منها تهريب الأسلحة.
وفى كتاب ” البراءة الضائعة ” حول أرثور رامبو تحاول الباحثة ” انيد ستاركي” إعادة هيكلة، أو بناء حياة هذا الشاعر المعنّى خاصّة منذ اللحظة الأولى التى يغادر فيها أسرته ومنزله. حيث تلجأ الكاتبة إلى تحليل دقيق، وتمحيص عميق لبعض الظواهر الحياتية ، والملابسات التاريخية ، والظروف البيئية التى عاشها رامبو. إلاّ أنّ الكاتبة تقع في أخطاء فادحة لا تغتفر فى حقّ الشعوب حيث تتحدّث مثلا عمّا تسمّيه ب: (الفترة البطولية للإحتلال الفرنسي للجزائر.. !)، وبالمقابل تسمح لنفسها الإشارة إلى مصادرالأخلاق الكاثوليكية التى تترى في الكتاب ، فضلا عن تعرّضها لحياة المجون والمروق التي عاشها كلّ من فيرلين ورامبو بشكل فاضح وسافر حيث تصف الأوّل ب:”الفاسق”، والثاني ب:” المتوحّش” .. !
عندما بلغ صاحب الغريب الكاتب الفرنسي” “ألبير كامو” (من مواليد الجزائر) العشرين من عمره علم وفهم لماذا قرّر رامبو يوما مّا التوقّف عن الكتابة ، لقد فعل ذلك لسبب بسيط حسب رأيه ، وهو أنّه كان قد قال كلّ شئ ، لذا كثيرا ما قورنت هذه ” البراءة الضائعة ” لدى “رامبو ” كذلك بحالة ” كامو ” في مكابدته ومعاناته.
_________
* باحث وكاتب ومترجم من المغرب يعيش في اسبانيا 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *