نبيل درغوث*
( ثقافات )
إنّ رواية “المشرط” كانت اسما على مسمى.فهي كالمشرط الذي فتق عقدة خصاء الرواية التونسية.حيث خرجت هذه الرواية الحدث عن سرب السرد التونسي في عزف منفرد. و قد ذكر لنا الناقد توفيق بكّار أن المشرط ستكون علامة في السرد العربي. و تحدّث أيضا عن “ المخّاخ ” هذه الشخصية العجائبية ، و هي نتاج جماع بين رجل و بغلة أنتج مسخا في صورة طائر بشع برأس بغل يعشق امتصاص العقول البشرية و خاصة منها عقول الأطفال.
يقول توفيق بكّار:” إن المخّاخ شخصية مبتكرة ، تونسية صرفة لا تذكّرك بأيّة شخصية في الرواية العربية ، لأن السرد العربي المعاصر أصبحت فيه الشخصيات الروائية متشابهة على شاكلة : “مصطفى سعيد ” في موسم الهجرة إلى الشمال لطيب صالح و ” أبو هريرة ” في حدّث أبو هريرة قال لمحمود المسعدي و “سعيد مهران” في اللص و الكلاب لنجيب محفوظ و ” زكريا المرسنلي ” في الياطر لحنّا مينه و” سعيد أبي النّحس” في المتشائل لأميل حبيبي” كل هذه الشخصيات يعاد استنساخها بطرق مختلفة.”
لئن كانت شخصية المخّاخ مسخا فإنها تبدو لنا واقعية جدّا و ترقد داخل كل إنسان منّا . ولفرط انتشارها أصبحت لا تدرك بالبصر بل بالبصيرة و إن كانت رؤيانا عمياء! كلّنا يعلم أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان حسب عبارة هوبز لكنّ الرياحي وسّع من دائرة هذه العبارة و حرّفها فعدت “الإنسان مخّاخ لأخيه الإنسان” ، فكلّ منّا ينام بداخله مخّاخ نحاول كبح جماحه ، لكنّه كلمّا استيقظ في غفلة منّا يأخذ في امتصاص عقول الآخرين . إن شخصية المخّاخ التي أشاد بها الأستاذ الكبير توفيق بكّار و اعتبرها شخصية سردية نموذجية بأبعادها الرمزية و الأسطورية وقع تأويلها تأويلات شتىّ .فذهب بعضهم إلى أنها صورة للدكتاتور و بعضهم أرجعها إلى الفكر الأصولي الديني المتطرّف أو غول العولمة …
يمكننا أن نقول ، دون أن نجانب الصّواب ، أنّ رواية “المشرط ” تعتبرأجرأ رواية تونسية عبر تاريخها الطويل ،عالجت هموم و شواغل الواقع التونسي هذا الواقع الفظيع الذي يعجز العقل عن فهمه أحيانا فيصبح الواقع متمظهرا في العجائبي و الأسطوري الرواية تعالج ألوانا من المسكوت عنه بحدّة نادرة و طرح صادم، ” واقعية تصدم الذائقة ، و تناول فجّ لأحداث الحياة اليومية يرنو إلى إحداث صدمة قاسية ، وتخييب الانتظار[…] ينبع ذلك من شخوص الرواية… فمنها التاريخي و منها النصي الذي يعيدنا إلى عالم الرسم، و منها الأدبي، و منها الواقعي الذي لا شاهد على وجوده إلا الكاتب… فضلا عن قرائن بعينها من واقع عاصمتنا و مقاهيها و حاناتها و بعض الأماكن المخصوصة فيها. من الشخصيات … المخّاخ ، و الغرّافة، و الرجل المحموم و الضرس و الزوجة و النيقرو و بولحية و السلطان شوّرب و هندة وسليم النادل و سيدة الروتند و الروتاند و شارع بورقيبة و ابن الحجّاج و الشهلاء الحمراء ….” هكذا بدت المشرط للروائي و الجامعي الدكتور صلاح الدين بوجاه إن الواقع يبدو في الفن حسب الناقد عبد المنعم تليمة ” أكثر غنى من حقيقته الواقعة لأن الفن لا يقف عند الواقع في معطياته الخارجية المباشرة ، إنما يتخطّى هذه المعطيات إلى إدراك جديد لها فيبدو الواقع في صورة جديدة له : صورته الفنية “. حيث يلتبس الأمر فلا يكون بالإمكان تمييز الواقع من الخيال عندما يندغم الواقعي بالخيالي . ويقول في ذات المعنى الناقد المغربي الدكتور عبد المالك أشهبون متحدّثا عن رواية الرياحي ” تظل المشرط متفردة بامتياز فهي رواية المفارقات و الغرابة و العجب.فكل الشخصيات الواقعية (ابن خلدون) أو الخرافية (المخاخ النسناس…) أو المتخيلة (شورّب و بولحية و النيقرو و سيدة الروتند و غيرهم) تنصهر في بوتقة النص لتسم الرواية في الأخير بميسم مغاير و غير مألوف في السرد العربي الحديث”.
يبدو أن رواية الرياحي ستمثّل نقلة نوعية في السرد التونسي لتميّزها أسلوبا و موضوعا و رؤية لا سيّما أن الرواية التونسية عانت منذ سنوات من التحليق البارد في اللغة بعيدا عن الواقع المنسي و عن المهمّشين. فالأدب سيظلّ لصيق الحياة ، و هو تعبير عن الحياة الإنسانية في تمظهراتها المختلفة إذ ” الحياة و الأدب توأمان لا ينفصلان” . ” المشرط ” رواية محتفلة بالهامش و المختلف ، رواية القاع و الوجع و كاتبها مسكون بالاختراق ، ملتبس بعنف اللحظة و شراستها يذكّرنا بعبارة بروست ” من عمق أي آلام أخذ قوة الإله هذه و القدرة اللامتناهية على الخلق” .
بجرأة تونسية نادرة أبدع كمال الرياحي في تشكيل نصّ روائي مستحدث بجماليات كتابة جديدة تعكس ثقافة و تجربة كاتبها . كتابة “مشرطيّة” ” أخذت تنقّب عن المواقع الأكثر سريّة و تقلّب وجهات النظر … ” على حدّ عبارة الناقد الجزائري جمال الدّين بن الشّيخ . فكان خلق شخوص روايته على غير صورة و لا مثال .
و صفوة القول ، إنّ رواية كمال الرياحي رواية خطيرة بكل مقاييس الخطورة لم يتعوّد عليها القارئ التونسي . وكان لها كبير الأثر في المتلقي العربي ناقدا أو قارئا.
___________
(*) كاتب من تونس