المُحال إلى التقاعد


*الطاهر بن جلون/**ترجمة: أحمد عثمان

انتهى محمد من صلاة العشاء وظل جالسا على السجادة المصنوعة من الألياف الصناعية وساقاه مثنيتان إلى الخلف. وضع أمامه على الحائط ساعة من البلاستيك مصنوعة في الصين. لا ينظر إلى العقارب وإنما إلى الصورة التي يحيطها الإطار: رجال يرتدون الأبيض يدورون حول الكعبة. يتذكر حجته. أحنى الرأس لكي يجيب على النداء. بدا عليه كأنه سمع صوتا، شيئا من همهمة تفر من صدع في الحائط، صدع لم تسده ورقة ملونة ترجع إلى سنوات الستينيات.

غمغم فقط ببعض السور القرآنية القصيرة، ثم شعر بأن شيئا ما يحتجزه. يمنعه من النهوض. الحائط يكلمه. رأسه ينحني ثانية إلى الأمام، ونفس الصوت يتجه إليه متحدثا بدارجته. فتح المصحف، وتظاهر بأنه يغوص فيه. يحب صحبة هذا الكتاب المقدس حتى وإن لم يكن يعرف القراءة. يحب فن خطه، تجليده المصقول بالجلد الأخضر وأهمية وجوده.
على الرغم من أن الحائط ثابت، فإنه كان يشعر بكونه يقترب منه أو أنه يتقدم إليه. كان يشعر بكونه سجين هذه الغرفة الصغيرة التي لا يدخلها الأبناء. اعتقد أن الصوت يكلمه عن تقاعده. تلك الكلمة التي لا يريد أبدا سماعها. هذا التاريخ المقدر الذي يريد أن يؤجله إلى وقت آخر، إلى أقصى حد ممكن. لا شيء له صلة بالحج. دوما كان يخشى هذا اليوم، هذه اللحظة. التوقف عن العمل، تغيير العادات، عدم الاستيقاظ في الخامسة صباحا، التكيف مع حياة جديدة، تعلم عدم السأم برقة، التعود على عدم فعل أي شيء من دون السقوط في الحزن، بيد أن السوداوية كانت حاضرة هنا، لأنه لا يمكن أن يفر من التقاعد أو الإحالة إلى التقاعد كما يسميه. ذكرى إبراهيم، الذي توفي بعد خمسة أشهر من تقاعده، تثير رعبه. لم يكن مريضا، ولكن الإحالة إلى التقاعد قتلته.
ومع ذلك، في المصنع، كان رفاقه الفرنسيون يبتهجون من بلوغهم هذا اليوم لأنهم سينتفعون من وقت فراغهم، رحلات، العمل في المنزل، البستنة، القراءة وحتى العمل لحسابهم الخاص. هو، لم يكن يعرف شيئا سوى تحمل الزمن: الزمن عدوه، العدو الذي سيضعه للمرة الأولى عاريا أمام نفسه وأمام ذويه. بالنسبة إليه، الزمن طويل للغاية. الزمن سيحطمه رويدا رويدا ثم سينهي وجوده كما فعل مع صديقه إبراهيم. لا يعرف أن يقوم بأي عمل منزلي ولا البستنة، فقط الرحلة، الشيء الوحيد الذي قام به طيلة حياته غير الحج، أن يذهب إلى قريته في الجنوب المغربي انطلاقا من فرنسا. يعرف هذه الطريق عن ظهر قلب، كما يقول، يشق 2600 كم في أقل من ثمان وأربعين ساعة. يلتهم الزمن من دون أن يتجاوز السرعة.
وقتما كان شابا، تعلم كيف يقتل الوقت: يحرث الأرض ببطء كبير. حينما يذهب إلى المسجد، يصلي أكثر من مرة الصلاة نفسها.
ولكن في 5 سبتمبر 1966 سلمه المقدم جواز سفره وطلب منه أن يستعد للرحلة الكبيرة، ولم يتملك نفسه من الفرحة لما عرض على زوجته هذه الوثيقة الثمينة: «بها، سأجعلك ملكة وابننا أميرا!».
رحل رفقة مجموعة من عشرين رجلا. استقل الباص، ثم باخرة فقطارا. مضى الوقت سريعا للغاية إلى حد أنه لم يفكر فيه أبدا. أصبح خفيفا، رشيقا وغير مبال بالزمن حتى وإن شيئا طفيفا من الخوف من المجهول تبدى في الأفق. احتفظ منذ قدومه إلى فرنسا بصور لم تزل حية حتى اليوم، سماء مكفهرة، رائحة غريبة من الغبار والعطور السيئة، جدران رمادية ونوعا ما سوداء، وجوه حازمة، ناس يمشون بسرعة ولا يقولون شيئا.
الآن، يجب أن ينهض، يسد هذا الصدع في الحائط، يوقف هذه الساعة التي جُنَّتْ، يطوي سجادته ويخبر زوجه بأن غدا أول يوم من أيام تقاعده. نظر إلى وثائقه، بلغ السن اللازمة. يتذكر للحظة أنه أضاف عامين إلى سنه لكي يستطيع الهجرة. التفاوض مع المؤسسة – كسب عامين آخرين من العمل في المصنع – هذا صعب، فأوراقه حاليا يستحيل تزييفها، حتى أنه يخشى من الملاحقة لكذبه. يعدل عن هذا المشروع الأخرق. لا كلمة لزوجته ولا أبنائه الخمسة.
كما العادة، استيقظ مبكرا، ارتدى ملابس العمل الزرقاء، أخذ قصعته وغادر المنزل، قائلا «إلى المساء». كانت السابعة صباحا، استقل القطار، تعرف إلى الوجوه المألوفة، تبادل بعض الابتسامات ثم هبط في محطته. عند مدخل المصنع، اقترب المندوب النقابي منه وقال له إنه من اللازم أن يتقاعد وينتفع بوقته كله. ابتسم محمد وأجابه بأنه قدم للاستفسار عن بعض الأسئلة الروتينية وأنه سعيد للجلوس مع أبنائه الذين لم يرهم يكبرون. توقف أمام الباب الكبير، أفسح المجال لمرور الآخرين ثم قام بنصف دورة. كان حزينا، حزينا للغاية إلى حد أن ذاكرته تجمدت عند يوم قدومه إلى فرنسا.
قال في نفسه في فترة سابقة، إنه سيذهب إلى المغرب لقضاء بعض الأشهر ولن يفعل مثل حسن الذي استفاد من التقاعد لكي يتزوج من امرأة ثانية، بالطبع شابة وجميلة ولم تزر فرنسا أبدا. فكرة أن يهجر عائلته وأن يحيا حياته في البلاد مرة أخرى واتته كثيرا، ولكنه طردها بحزم وقد اعتبرها وسوسة شيطان. هل سيمضي أيامه في مقهى آرسكي القبائلي – ماذا سيفعل هناك- لعب الكارت والدومينو – لا يحب أي لعبة. احتساء البيرة – لا. متابعة التفاز، متابعة نتائج السباقات، الحلم بهذه الفتيات شبه العاريات التي تزخر بها المسلسلات الأمريكية – هذا لا يثير اهتمامه أبدا. وهكذا أنشأ يمشي، يداه مضمومتان في جيبيه. يمشي على امتداد الطريق، عيناه تنظران إلى الأسفل كأنه يمارس تمرينا طالبه الطبيب به، يفكر في أبنائه وأصابه الشعور بأنه على وشك أن يفقدهم. يشغل الابن الأكبر وظيفة طيبة في متجر كبير، وله زوج إسبانية. الصغرى، خرجت عن طوعه وتزوجت من إيطالي: لا يراها. كان مؤلما عليه أن يرى أن غير مسلم ينضم إلى عائلته. اعتبر كأنها ليست ابنته.
الثلاثة الآخرون هجروا المدرسة واشتغلوا في الريف. أصبح المنزل كبيرا عليه وعلى زوجه. تشتت العائلة. يحلم بأن يجمع شمل الأسرة ويقيم حفلا. ولكن في الوقت نفسه كان متيقنا بأن أبناءه لا يتنقلون كثيرا. ولذا قرر أن يمرض مرضا كبيرا. هو ذا الحل. سيأتون لكي يقولون له وداعا على فراش المشفى. بيد أنه كان متطيرا، لا نلهو مع المرض ولا مع الموت ولا مع إرادة الرب. في المساء رتب حقيبته واستقل القطار من محطة أوسترليتز، في اتجاه آلجزيراس. لم يكن متعجلا. سيمضي طوال الليل في رسم الخطط حتى يرى أسرته الصغيرة متحدة.
في البلاد، سيبدأ في بناء بيته من جديد. كانت الأشغال قد توقفت بسبب الأموال التي تأخرت عن القدوم. في الوقت الحاضر، لحياته وتقاعده معنى. يرى إلى البيت الكبير، الجميل، الزاخر بالنور والأبناء. رسنه في رأسه، تاركا شيئا من المساحة للحديقة، وأحصى الأشجار التي سيغرسها، واستعرض الورود التي سيطلبها من سوق مراكش، سيكون له مبقلة.
توقف القطار في الريف. تطلع إلى السماء، كان القمر يشع نورا كثيفا. ونجوم خيطية تجتاز بياض هذا النور الجلي، بعضها يشبه قطرات مياه أمطار الصيف. أنشأ يحمد الرب الذي عاونه على هجران التقاعد ومنحه فكرة جيدة للانشغال بنفسه. كان سعيدا، وكطفل لم يكن صبورا. الوقت لا يشغله البتة. من اللازم أن يتجه سريعا إلى القرية ومن فوره ينادي المعلم بوعزة لكي يباشر العمل من جديد. حينما واصل القطار طريقه، اعترته سعادة كبيرة بحيث تتابعت صور كل الفصول التي رأى نفسه فيها محاطا بذويه.
بعد خمسة أشهر، كان البيت جاهزا. لم يحدث أيا من أبنائه عنه، على سبيل المفاجأة. لاقته امرأته، كانت تعرف أن زوجها يسير على الطريق الخاطئة، وأن الأوهام تغذيه. منذ فترة طويلة، فهمت أن بناتها وأولادها لم يعودوا ينتمون إليهما، وأن زوبعة فرنسا التهمتهم، وأنهم يحبون حياتهم وأنهم لا يتحسرون ولا يندمون على شيء. رأتهم يرحلون وكانت تعرف بأنها لا تمتلك شيئا لردعهم، وإبقائهم قربها وقرب زوجها. هو، وقتذاك، يبني أكبر بيت في القرية مثل بيوت الأزمنة الغابرة التي كان يسكنها جميع الأبناء. لم تغيره أربعون عاما من الوجود في فرنسا. كانت البلاد وتقاليدها تسكنه. كان البيت غريبا. يشبه شاحنة ملآنة عن آخرها. كان كاللطخة في المنظر الطبيعي. خطأ، جنون. الشرفات ضيقة، النوافذ صغيرة والمدخل كبير. حينما انتهى العمل، أحضر قارئي القرآن، ذبح ثورا على عتبته، حرق البخور في الداخل وسكب بعض الحليب في الأركان، كان البيت مباركا.
بما تبقى من مدخراته، ابتاع الأثاث، وخلال زيارته لمراكش انتهز الفرصة وتلفن إلى كل ابن من أبنائه ودعاه لزيارته، بل وبذل جهدا وتلفن لابنته التي محاها من حياته، تلك التي تزوجت من أوربي. كان الجميع على جهاز الرد الآلي، ترك لهم رسالة على الرغم من أنه كان يرفض عملها وقتما كان في فرنسا: «البيت جاهز، إنه كبير، لكل واحد غرفته، تعالوا، أنتظركم للاحتفال معا بالعيد الكبير، ابتعت ستة خرفان، خروف لكل واحد، تعالوا، البيت جميل للغاية، واسع، ملآن بالنور والرائحة الطيبة، ليحرسكم الرب، أنتظركم! أخيرا سوف نحيا معا في أحضان العائلة الكبيرة!».
قال لزوجه: «تحدثت إلى آلاتهم، أتمنى أن تنقل لهم جيدا رسالتي من دون أن تغير مضمونها، على الأقل تلح عليهم وتجعلهم يطيعون رغبة والدهم!». صباح العيد، طلب ابن أخيه، الراعي الأصم الأبكم، الذهاب إلى مدخل القرية وانتظار قدوم الأبناء ودلهم على الطريق. خلال هذا الوقت، جلس في الظل، قرب باب البيت الكبير وانتظر. كان يسبح بمسبحته آليًا لمنحه الصبر.
لم يأت أحد. في المساء، أنشأ الراعي، متأثرا، يبكي. كان يريد أن يقول إنه ليس من حقهم التخلي عن والدهم وعلى الأقل عدم الرد على دعوته. رأى أن فرنسا غول يلتهم الأطفال وأنه كان محظوظا لأنه لم يغادر البلاد أبدا. بالنسبة إلى محمد، لم ييأس من رؤيتهم خلال الليل. لم يتحرك من مقعده رغما عن نداءات زوجه. كان هناك، ساكنا، ثابتا، أمام البيت الواسع الكبير، وسط المنظر الطبيعي الخالي، الذي اكتسحته ريح ماكرة، محاطة بصمت ثقيل.
———–
* كاتب من المغرب.
**مترجم من مصر.
مجلة(العربي)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *