*مقداد عبد الرضا
أنجز الكاتب اللاتيني سارماغو ( نوبل 1998) روايته “العمى” في العام 1995، وقد عدت من أكثر الروايات جدلاً وشهرة لكنها بقيت عصية على السينما لأسباب عدة أولها توجس كاتبها، ولأن زمنها يبدو غامضاً وغير واضح المعالم حتى في مكان أحداثه، لكن المخرج فرناندو ميريليس صاحب ( مدينة الرب ) استطاع أن يقنع الكاتب ويحولها إلى فيلم نستطيع أن نقول عنه انه يعد واحداً من الأفلام المهمة التي أنجزت مؤخراً ( 2008 ), قد تبدو البداية مشابهة لفلم فلليني (ثمانية ونصف) ذلك الهلع الذي يصيب البشر وهم محاصرون داخل سياراتهم لا يستطيعون الخلاص, عند ميريليس وباء العمى يصيب فجأة سائق السيارة وهو يتطلع إلى الإشارة الضوئية, الحيرة تصيب الجميع, ينقله شخص إلى بيته ثم يقوم بسرقة سيارته, لكنه هو الآخر يصاب بالوباء, خلال شهور قليلة ينتشر العمى ليصيب المدينة برمتها, ترتبك الحكومة فتقوم باحتجاز المصابين في محجر صحي هو في الأساس مأوى للمجانين ليقربنا إلى فلم (أحدهم طار فوق عش الوقواق), وهل تحل المشكلة عند هذه النقطة؟ يصيب العمى الحكومة وتدخل البلاد في حالة فوضى وهستيريا, الوحيدة التي تنجو من هذا الوباء هي زوجة الطبيب لكنها تتظاهر بالعمى, تحاول بشتى الطرائق إنقاذ المدينة, داخل المستشفى تسود الفوضى والصراعات, إذ تعلن إحدى العصابات مسؤوليتها عن الطعام وتحاول الاستيلاء على ما يضعه المصابون من حلي ومصوغات. ينتهي هذا الاحتدام بمجزرة بشرية على جسد إحدى النساء لتموت, تتكفل زوجة الطبيب بتنظيف المرأة ودفنها في مقبرة القرية لتعود الى المشفى لتغرز المقص في قلب رئيس العصابة, ينطلق العميان إلى شوارع المدينة حتى ليبدو انّ العمى أصاب العالم برمته, أناس يتصارعون من أجل الطعام, كلاب تلتهم الجثث, زوجة الطبيب هي عين العالم الآن, تحاول قيادة أصدقائها إلى البيت في رحلة غرائبية، إذ إن هناك حياة جديدة, حينما يعود البصر إلى أول شخص أصابه الوباء ذلك السائق ينفتح العالم على أمل جديد، العمى كرواية وكفيلم هي اشارة واضحة على إن العالم ينحدر إلى كارثة سيكون ضحيتها الإنسان, ستنهار المجتمعات وسيصبح كل شيء مآله الجحيم, انه عصر الانهيارات الأخلاقية والحضارية التي يعيشها هذا الكوكب, فهل هناك إمكانية للانتقال إلى كوكب آخر من أجل الخلاص من العمى؟ اختار المخرج فرناندو ميريليس مدينة سان باولو موقعاً رئيساً للتصوير؛ لتأكيد روح الرواية والتركيز على الزحام الذي يشابه في ضجته أجواءها, الفيلم يعد واحداً من الأفلام التي حاولت الاقتراب من روح الرواية, فهل نجح ميريليس في ذلك ؟ ربما أو ربما لا. من قرأ الرواية وسيشاهد الفيلم سيحسم ذلك الأمر, هل هي مصادفة أن تكون المدينة بلا اسم وكذلك الأشخاص؟ لكن كل شيء يبدو واضحاً على الخريطة من الممارسات اليومية, هل أراد سارماغو أن يخدعنا بهذا العمى؟ أهو مؤقت ام انه لعنة أصابت تلك المدينة كما في سدوم ؟ لا أعرف لم قادتني الرواية الى رواية مناخها يقترب من مناخ العمى, انها رواية خوان رولفو المعنونة ( بيدرو برامو ) اننا ازاء مدينة تكتنفها الريبة والغموض, الخوف والتوتر .. تلك العنابر التي احتجز فيها العميان, تظل جوليان هي الوحيدة التي لم تصب بهذا العمى, ربما يبدو هو الضعف الوحيد في الرواية وكذلك الفلم, لا نعرف كيف ستستمر المدينة ان أصيبت كلها بالعمى .. الممثلة جوليان مور لم يجلبها المخرج ميرليس اعتباطاً فهي الأفضل قطعاً في الفيلم, فعلى الرغم من التوترات التي صاحبت الإيقاع, استطاعت بأدائها المتقن والمتميز أن تمزج بين العذوبة, عذوبتها الشخصية وأداءها الرصين, هناك أسماء مهمة في الفيلم لكنها ظلت خلف براعة جويلان مور، تتطلع معنا إلى تدفق خلجاتها المرنة والجميلة ..
________
*(الصباح الجديد)