صلاح عناني: كل صورة لها روح



*خالد حماد

“مائة سنة سينما”.. “مائة عام من التنوير” حقيقة عاشتها الأمة المصرية وحقيقة رسمها عناني في لوحتين هم الأبرز في منجزه الإبداعي والذي التصق بهم اسمه رغم تاريخه الفني المليء بالصورة.

لا أحد يعرف حقيقةً كم هو محظوظ عناني أن يعيش وسط جيل العمالقة كما يسميهم إدريس، وأمل دنقل، ويحيي الطاهر عبد الله، وصلاح جاهين حالفه الحظ كثيرا ذلك الفنان ليعيش مع جيل ينهل منهم المعرفة ويتحاور.. يسأل ويجيب.. وينظر ويضيف وينفتح على ثقافات العالم.
من تجارب فناننا عمله لسنوات بالصحافة وفي “روز اليوسف”، تحديدا، والتي قدمت جيلاً من الشباب الموهوبين في فن الكاريكاتير والرسم بشكل عام. وأصبح الطالب محمد صلاح عناني واحداً من ذلك الجيل.. نعم كم هو محظوظ، وكم سعدنا بحظه الذي أضاف للفن التشكيلي، وأسعدنا بأعماله التي تحكينا وتسردنا في لوحاته.
تكمن في أعماله الحياة بكل ما فيها من تناقضات.. يرصد بريشته الصورة البصرية المشهدية للحارة، للمقهى، وللميدان، ولشاشة السينما أحياناً. ثمة روح للصورة.. فهي تدهشك ببساطتها وتناقضاتها وغرابتها في أن تتجسد في لوحة واحدة. وكذا نادراً ما تجد تناقضات البشر -من لؤم وسذاجة.. طيبة وشقاوة.. ضحك وبكاء- داخل إطار اللوحة. ثمة ألفة حقيقية بين المشاهد والعمل الفني لعناني، ولا يمكنك أن تخرج من إطار لوحاته إلاّ وأنت واحد منها.. تعيش انفعالات الصورة وتتنفس حيوية شخوصها وتنفعل معهم.. تضحك وتغضب وتثور وتهتف وتشرب قهوتك مستريحاً على إحدى ترابيزات اللوحة لتتبادل الحوار مع إدريس، أو تجلس مستمعاً إلى إشارات محفوظ، ونغم درويش، وتهز رأسك مع آهات أم كلثوم وتضحك ملء شدقيك من قفشات إسماعيل ياسين. من هنا يتأكد أن الصورة المشهدية عند عناني هي الحياة.. هي البشر.
الفن والميدان
لم يكن غريبا أن تجد عناني منخرطا في الثورة ضد أنظمة الحكم الفاسدة والمتبلدة. ما حدث وما يحدث ملتصق مع ريشته ومع ما يقدمه من ثورة في فنه، شخوص أعماله الفنية سبقته والتحقت به إلى الميدان. لكن الغريب أن يعيش عناني الفنان المريض برهاب الموت لحظات الموت، وأن يصارعه ويصارع الخوف المستكين ويهزمه وسط الجموع “في قلب الميدان”. ولأن الفن جنون كان على عناني أن يستثمر جنون فنه ليدشن بالميدان منصةً عريضةً يخاطب فيها جموع البسطاء من المصريين؛ ليكشف لهم عن خبراته وكيفية التعامل في تلك اللحظة الراهنة، ليجيب عن أسئلتهم؛ ليثبّت يقينهم في ثورتهم. على مدار ما يزيد عن عامين كان ومازال لعناني الميدان وناسه هم ملاذه. هاجم المجلس العسكري في أكثر أوقاته قوة، هاجم الإخوان في قلب الميدان. وأول من قال عنهم صراحةً أنهم عملاء للأميركان.
وكان السؤال الذي يلح عليّ ما زال قائماً.. ما الذي يدفع فنانا مثل عناني أن يعرّض حياته للخطر بتصريحاته تلك، ومهاجمته الواضحة والصريحة لجماعة الإسلام السياسي دون هوادة؟ جاء رد عناني.. لا أعرف فناناً ليس ثورياً؛ لأن الفن في حد ذاته ثورة على الموت ومواجهته بالحياة في لوحة أو في كتاب؛ ما جعل من الميدان ملاذي. غير ذلك إيماني العميق بأن ثمة ثورة آتية ولا أحتمل أن تكون هناك ثورة وأنا ساكن.. بلا حراك؛ فتجدني دوماً فيها ومعها. ولا تفوتني أبداً فرصة أن ألتحم بالجموع وأن أكون واحداً منهم وأن أخرج عن المألوف. وببساطة شديدة جداً ثمة التزام أخلاقي لديّ تجاه الميدان؛ فشخصيات لوحاتي في الحارة والمقهى خرجت إلى الميدان. كان لزاماً عليّ أن أكون في مقدمتهم.. كان لزاماً على الفنان المثقف داخلي ألاّ تفوته فرصة أن يكون في الميدان.
ثورة حقيقية
ما حدث في 30 يونيو ثورة حقيقية التحمت فيها ملايين الشعب ليسقطوا الفاشية الدينية التي كانت تحكمنا، بعد أن سقطت كل الأقنعة الزائفة التي يحملونها. خروج الملايين إلى الشارع كان الهدف منه التخلص من ذلك النظام المتغطرس والضعيف في ذات الوقت. ولا يمكن توصيف ما حدث على أنه انقلاب؛ فموافقة القيادة العسكرية وانحيازها لجموع الشعب كان أمراً طبيعياً. كذلك لا يمكننا أن ننسى أن تلك القيادة التي جاءت من الصف الثاني من الجيش المصري ليست لها أية مصالح مع أميركا والغرب تربكها في اتخاذ قرارها وانحيازها للشعب المصري. وفي رأيي أن ما فعلوه هو إنجاز حقيقي على الأرض، فهم أقرب إلى الجيش والشعب المصري ولا يدينون بأي ولاء لأميركا.
يفاجئنا عناني بصراحته حول تاريخ مصر والصورة الذهنية المترسخة والمتجذرة لدى وعي أغلب مثقفينا، وهي أننا مازلنا نقرأ تاريخنا بعيون الغرب. ويؤكد عناني أنه مازال أمامنا الكثير لنقرأ تاريخنا بعيوننا نحن.
وببساطة شديدة إن أغلب مصادر تاريخنا إنما هي مصادر مستشرقة؛ فنحن كنا ومازلنا لم نقدم أي جهد مخلص وحقيقي لإعادة قراءة تاريخنا الفرعوني والإسلامي. ويؤكد عناني أن ثمة منظومة فاشلة حتى في التبعية الثقافية، فما زلنا مدينين بقراءتنا للرجل الأبيض الأوروبي؛ ولذا نحتاج إلى جهد كبير وشاق في إعادة قراءة منجز تاريخنا العربي الإسلامي ومن قبله القبطي والفرعوني.
ويجب علينا أن نعترف أن كل مراحل التاريخ الإنساني جاءت على هذه الأرض “مصر” وهذا التاريخ هو شحن لتلك الأمة وشعبها، وأن تكون طوال الوقت في وضع استثنائي.
_______
*(العرب)

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *