*بوعلام رمضاني- الجزائر
شكل انطلاق عرض فيلم “يما” للمخرجة الجزائرية جميلة صحراوي بالقاعات الفرنسية مفاجأة سارة لجمهور السينما العربية والجزائرية خاصة بفرنسا، باعتبار الفيلم من أبرز الإنتاجات الجزائرية في الفترة الأخيرة، ويلقي الضوء على حقبة قاسية من الصراع السياسي في هذا البلد.
بفيلم “يما” تكون المخرجة صحراوي قد استكملت رحلتها مع إدانة ظاهرة “الإرهاب “والعنف الدموي بالجزائر التي شكلت هوسها الأول منذ بداية مشوارها الفني انطلاقا من شريطها القصير “نصف سماء الله ” عام 1996 مرورا بأفلام “الجزائر رغم كل شيء ” عام 1999 و” الجزائر الحياة دائما ” 2001 ” ووصولا إلى ” والأشجار تكبر في القبائل ” عام 2003 “و” بركات ” عام 2006 فيلمها الطويل الأول الذي نالت عنه 11 جائزة، وكانت المرأة في كل أفلامها المذكورة محور منطلقها الفكري باعتبارها مستقبل الرجال -كما قال أراغون- بوجه عام وفي الحالة الجزائرية بوجه خاص.
وتتمثل الإضافة النوعية التي جاء بها فيلم “يما” في شخصية البطلة جميلة صحراوي الخارجة في السياق الدرامي من رحم التراجيديا الإغريقية والروح البريختية، وهي التي أبدعت في أداء الدور الرئيسي بالفيلم الذي حقق نجاحا ملفتا بالدورة 69 لمهرجان البندقية السينمائي.
وساهم تقمص صحراوي لدور الأم وأدائها المتميز في إنقاذ الفيلم من إيقاع ثقيل ورتيب فرضته الحياة الريفية التي ينقلها، وهو الإيقاع الذي كاد أن يقضي على دور القروية الأمازيغية الفولاذية التي أحيت الأرض الوعرة وأنبتت الخضار والفواكه وجابهت كل أنواع العنف بصبر.
تحدت “وردية” دورة العنف والطبيعة القاسية والمصير الفجائعي بفقدان الابن العسكري (طارق)الذي راح ضحية أخيه المتهم بالمشاركة في اغتياله (علي) كما أبرزه مشهد الأم التي قبلت أن تربي رضيع الابن الضال -الذي سلكا نهجا دينيا متشددا- بوسائل بدائية رغم كل ما ألحقه بها من أنواع الأذى بعد أن غسل دماغه “المتشددون باسم الإسلام” ومحاربة الطاغوت الحاكم.
بطلة إغريقية
تعيش “وردية” في قرية نائية بقلب بلاد الأمازيغ في عز ما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية الجزائرية الحديثة بالعشرية السوداء أو “الحرب الجزائرية الثانية” وفق لغة اليمين الفرنسي المتطرف.
الأم غير المتدينة -على طريقة ابنها الذي التحق بالجبال مجاهدا- عادت بمفردها إلى القرية المهجورة بعد عودة الهدوء نسبيا لدفن ابنها طارق الأمر الذي دفع بالحارس الذي فرضه عليها ابنها علي لنهرها قائلا “إنك مسيحية ولست مسلمة، وإن الرجال هم الذين يدفنون الموتى وليس النساء”.
بلغت معاناة “وردية” النفسية درجة لم تعد فيها تتحمل الذكريات التي تنطق بها الغرفة المتواضعة لابنها الراحل فقررت حرق كل أثاثها، ولولا اهتمامها اليومي بقطعة أرض كادت أن تذهب ضحية جفاف قاتل لما تمكنت من تجاوز حدادها وبالتالي موتها البطيء في قرية نائية معزولة وبعيدة عن مرافق وضرورات الحياة الحديثة.
بعد شهور قضتها الأم وردية الصبورة والمجاهدة “الإغريقية الأمازيغية “مقطوعة عن العالم الخارجي وتحت حراسة مشددة لرفيق درب ابنها، جاءت عودة “علي” من الجبل حيث المعارك بين “الإسلاميين المتشددين” والجيش مصابا برصاصة في الرجل لتعطي نفسا دراميا استرد الفيلم من خلالها إيقاعه المطلوب، وهي العودة التي أضافت درامية جديدة بعد مقتله على يد حارس أمه التي بقيت وحيدة رفقة رضيع بريء لم يعرف شيئا من محيط العنف الذي خرج فيه إلى الدنيا.
ولعب ظهور “علي” بعد غياب طويل دورا في إضفاء نوع من الحيوية بفضل حوار مقتضب وعنيف وجارح دار بين الأم وابن “ضال” لم تتردد في معالجته وقبول تربية ابنه الذي أنجبه من زوجة أخيه “طارق” التي أجبرها على الالتحاق به في الجبل وتوفيت في ظروف لم يكشف عنها السيناريو غير التقليدي، والشيء نفسه ينسحب على قرار الحارس لقتل الإرهابي التائب بعد فوات الأوان في نهاية الفليم.
الصورة بدل السيناريو
تقوم المقاربة السينمائية لصحراوي على انتهاج أسلوب إخراج متقشف ظاهريا من حيث الشكل لكنه عميق وثري ومدهش استنادا لتركيز مبدئي على تعبير سميولوجي اتخذ من الصور المتعددة الزوايا والنوعيات رهانا فنيا بالمقام الأول والأخير.
فبدل سيناريو تقليدي تجتر صاحبته شرحا مستهلكا لصراع مسلح بالجزائر ضمن ما يعرف بالعشرية السوداء، فضلت صحراوي لغة الكاميرا الكاشفة عن لقطات ناطقة بعنف عام بررته مناظر الطبيعة الخلابة والقاسية بالوقت نفسه، وتعامل الحارس غير الإنساني مع إمرأة شهمة وأبية وغير ضعيفة كما يتصورها الحارس المأمور والابن الذي تجاوز في تعامله مع الأم كل حدود العنف الجسدي واللفظي والنفسي.
من الإضافات الفنية الأخرى التي زادت من خصوصية فيلم صحراوي إلى جانب تجسيدها مهام الكتابة والإخراج والتمثيل ودور المرأة المرادفة للوطن الذي يسع للجميع رغم كل الأوجاع، يمكن اعتبار فسحها مجال الظهور للشابين “سمير يحيا” في دور الحارس و”علي زريف” في دور الابن فرصة ذهبية سمحت بتقديم ممثلين واعدين فنيا، مثلا بعفوية كاملة كونهما نتاجا خالصا للمنطقة التي خرجا من رحمها فضلا عن انتهاجهما تصور المخرجة للتمثيل الذي قامت به نفسها.
يُذكر أن صحراوي عرضت فيلمها الجديد في مهرجانات: البندقية عام 2012، ونامور ببلجيكا في السنة نفسها ونالت فيه جائزة أحسن ممثلة، ودبي الذي مكنها من الظفر بجائزة فيبريزكي، وساهمت وزارة الثقافة في الإنتاج.
_________
*(الجزيرة)