*
تميزت الشخصيات الرئيسية لرواية “مياه الروح” للكاتب يوسف نبيل بأسئلتها الهامة لإنجاز رحلة بحث روحي عميق. ذلك البحث الذي يجعل القُمّص بولس رياض يخلع رداء الكهنوت ليذهب إلى الأرصفة ويمد يده كالمحتاجين ليبحث عما أوهمه قدره بأنه في حوزته، لكن القدر نفسه رماه حيث الإفاقة من وهم حيازة الحقيقة، حين أفاق وقد رمى بما وراء ذلك الزيف الملفوف في عباءة الكهنوت ليستيقظ وقد وجد الطبيب أحمد شاهين وقد سجل له كل تجديفه وسبابه الذي طالما حواه قلبه.
أما تلميذه سمير وعلى حد تعبير يوسف نبيل فقد “احتفل بالضياع” وحطم العجز الذي أدركه كلما قرأ سير الخارقين والقديسين، فلم يعد يفكر في هالة القديس المزيف بعدها.
ورغم أن أغلب أحداث الرواية تدور فيما بعد الثورة، إلا أنها تحلم بنوع ثوري آخر. الغضب الذي أعلنته كل شخصيات الرواية بلا استثناء، والذي بدأ بغضب سمير عبد النور من جسده ومحاولة قمعه إلى أقصى مستوى، أدى به في النهاية إلى الاستلام إلى ما اعتبره خطية في تلك العادة الجسدية، ومرورا بغضب بولس رياض وحلقه للحية الحكمة المزعومة، ثم غضب الطبيب وسبابه لأمثال القداسة المزعومة والتي تفاخر بفضحها في مريضه القمص تحت تأثير المخدر.
الغضب كان مفتتح الجميع إلا أن غضبا آخر ظل يرقب الجميع، هو غضب قريب من أهم شخصية دارت حولها الأحداث. ذلك الغضب الذي ظل صوته عالقًا بالقمص ولم يستطع محوه، تذكره طوال أيامه كما قال يوسف على لسان بطله “طوال تلك الأيام المريرة أحاول انتزاع صوتها من أذني بلا جدوى..” ذلك هو صوت الأنثى.
صوت “نورا” الذي لا ينتزعه القمص ويدور بخلده ثلاثة أرباع الرواية. أما عن بداية الحوار الذي أجلته كثيرا ولم تبح به إلا بعد إصرار القمص مرات، تجد أنه الحديث الذي لابد وأن يحدث من مرآة كل شخص في مثل لحظات التحرر. يصف يوسف “…. ركضت نحوي كالمجنونة وبدأت في صفعي وضربي وجرحي بأظافرها في جنون. كنت قد سقطت على ظهري وهي جاثمة على أنفاسي تهيل ضرباتها وسط صراخ مجنون، منفثة عن سمها في كلمات أعلم أني لن أنجو منها في القريب، ولكن وسط هذا صمتـا مهيبًا”.
تعلم هنا أن عالمه القديم لن يغادره أبدا. تعلم أنه لن يستطع أن يحيا كما هو، فالكلمات التي فضحته بها لن تتركه ليهنأ بجديد يحققه. ومنذ ذلك الحدث تحديدا يتأكد للقارئ الطريق.. الطريق نحو الولادة الجديدة، تلك الفكرة التي تسعى إليها شخصيات الرواية بنوع أو بآخر. ربما أطلقت مياه الروح صوت الأنثى التي بداخلنا. ذلك الصوت الذي يأبى المغادرة دون أن نولد من الروح.
________
*(العرب)