كيف وقع رئيس الجمهوريّة من مقصورة القطار ليلاً؟


منصف الوهايبي *

( ثقافات )


“هذه واقعة حقيقيّة وليست خياليّة، وكلّ شبه بالرئيس التونسي المؤقّت، هو غير مقصود”



عثر البارحة عامل السكّة الحديديّة المسمّى’ رادو’ على شيخ يتسكّع على الرصيف، وهو في بيجاما. وقد ذهب في ظنّه، حالما لمَحهُ، أنّه سكّير لفظته حانات الليل. ولكنّه تفطّن إلى أنّ الرجل كان بلا جوارب، وكانت قدماه، تلوحان في ‘البنتوفل’[ البابوج،الخفّ] بيضاويْن نظيفتين، وليس عليهما أثر من غبار الطريق أوْ وَعْثائه؛ فأدرك بِحَدِْسه، أنّه إزاء شخصيّة فذة.
كان هذا الرجل ـ كما عرف منه العامل ـ قد استقلّ القطار 21 س 20د، في محطّة ليون،قاصدا’مونتبريزون’ حيث كان جمع من إطارات الدولة والمواطنين، ينتظرون قدومه، لتدشين أحد معالم المدينة. وقد أصرّ، رغم الزكام الذي لم يبرأْ منه، أن يؤدّي هذه الزيارة. وعند الساعة 21 و45د ترك صالون العربة، المُعدّ له، وآثر أن يقضّي ليلته في المقصورة الصغيرة الموضوعة على ذمّته. طلب من العامل[الفرّاش]، أن يترك ـ رغم الحرارة الخانقة ـ النافذتين المقصليّتين[ نافذة يتحرّك مصراعاها صعودا أو نزولا] مغلقتين؛ فقد كان يخشى أن يتفاقم زكامه، ويفسد عليه نومه. ابتلع حبّة لينام،وأعطى تعليماته بأن يوقظوه السابعة صباحا. ارتدى البيجاما،واندسّ في الفراش، واستغرق في نوم هانئ.
لكن لم تكد تمضي ساعة واحدة،حتى أيقظته الحرارة الخانقة، وقرّر أن يفتح إحدى النافذتين المغلقتين. وكان من ميزات هاتين النافذتين؛ أن تنفتحا إلى تحت، حتى يستطيع الراكب، أن ينحني خارج العربة،ويصافح مستقبليه، دون أن يغادر القطار. أخذ يُنزل القسم الأسفل،حتى إذا فـُتِح،أخذ في رفع القسم الأعلى من النافذة. ولكنّه وقف دون ذلك مدفوعا مصدودا،فقد استعصى عليه رفعه؛ وهو يستبسل؛ ويجذب ويدفع. وإذا بالنافذة ترتفع فجأة..وإذا بالرجل يجد نفسه، دون سند، يفقد توازنه، ويهوي في الفراغ. ومن حسن حظه أنّ القطار كان يسيربطيئا، وأنّ رَصّـَة السكّة الحديديّة، كانت أرضا معشبة؛ فخففّف ذلك من وقـْع سقوطه وارتطامه بالأرض. شعر بدوار،ولكنّه لم يفقد الوعي. نهض، وهو يترنّح.ثمّ أخذ يسيرُ والسكّة َ، باتجاه ضوء كان يلمع ويطفطف من بعيد.
انطلق القطار وقد ابتلعته ظلمة الليل، دون أن يتفطّن أحدٌ إلى الرجل الذي وقع، وهو يسير وحيدا في بيجاما.
في تلك الأثناء، كان عامل السكّة ‘رادو’ يسير هو أيضا، في الاتجاه المقابل،وقد عاد من إحدى الورشات التي كان يقوم على حراستها. ولمح فجأة الرجل، وهو يمشي مترنّحا. اقترب العامل مذهولا. كان وجه الرجل مضرّجا بالدم،وهو لا يضع سوى بيجاما رماديّة شهباء فاتحة، والقدمان حافيتان في البنتوفل. وخطر بباله أنّ الرجل سكران ثمل، فصرخ به:’ من أنت؟’ وأجاب الغريب:’ أنا السيّد دوشنال.. لقد جُرِحتُ’. وقال العامل في نفسه’لابدّ أنّ هذا السّكران يسخر منّي’. وإذْ ألحّ، قال الغريب إنّه دوشنال نفسه. فاقتاده ‘رادو’ إلى بيت حارس السكّة ‘داريو’، لتضميد جراحه؛ وهو يقول لصاحبه:’ هذا الجريح يدّعي أنّه السيّد دوشنال’. وقال الآخروهو يهزّ كتفيه ويزرّر بعينيه: ‘ هل أنت تمزح؟’. وتمتم الجريح:’ لكن أين ذهب القطار الذي كنت فيه؟أين أنا؟’. وجاءت ‘مدام داريو’ تنظّف جراحه، فيما انطلق’رادو’ ليخطِر ثكنة الحرس في البلدة، ويوقظ الطبيب’غيّومو’،حتى يأتي لفحص الجريح. ولم ينسَ أن يُخطِر أيضا،محطّة ‘مونتارجيس′ بأنّ هناك رجلا يزعم أنّه السيّد دوشنال، وقعَ من القطار. ولم يقع إبلاغ نائب الحاكم، إلاّ حوالي الخامسة صباحا.
في تلك الأثناء، كان ‘غوستاف داريو’ وزوجته، قد مدّدا الرجل في سريرهما، حيث استغرق مثل رضيع، في النوم. وعندما وصل الدكتور’غيّومو’، حوالي الواحدة ، ونطر إلى الرجل النائم، أكّد أمام دهشة الجميع،وذهولهم؛ أنّه السيّد دوشنال حقّا.
عند طلوع النهار، وصل نائب حاكم’مونتارجيس′، وحمل عند السادسة وعشرين دقيقة، السيّد دوشنال الذي شكر مضيّفيه، بحرارة. أمّا الصحافيّون، فقد سألوا، فيما بعد، زوجة حارس السكّة؛ وقد قالت لهم إنّها، أدركت، من رؤية القدمين النظيفتين، أنّ الرجل شخصيّة فذة.
حُمِل الرجل إلى منزل نائب الحاكم، حيث حُقِن، قبل أن يضطجع ثانية، بمضادّ للكزاز. وأمّا القطار، رغم هذه الأحداث المثيرة، فقد واصل طريقه، في قلب الليل. ولا أحد تفطّن إلى اختفاء السيّد دوشنال. كان الجميع يعتقد أنّه مستغرق في النوم. عند5س13د، توقّف القطار،عشرين دقيقة، في’سان جرمان دي فوساي’. وجاء أحد الأعوان،ليسلّم لمراقب المحطّة، برقيّة كُتِبَ فيها أنّ رجلا يزعم أنّه السيّد دوشنال، يقول إنّه وقع من هذا القطار. ولم يصدّق المراقب. ومع ذلك هرع يذرع عربات القطار، بحثا عن الرجل الذي يمكن أن يكون قد وَقعَ، وذهبَ في الظنّ أنّه السيّد دوشنال. دخل كلّ المقصورات، وتفقّد كلّ النوافذ. ولم ينسَ مقصورة الصحفيّين وقد ذُهِلوا. كان الركاب الذين صعدوا من ليون، وعددهم ثلاثة وخمسون، موجودين كلّهم. ولم يتجرّأ المراقب، على أن يطرق باب المقصورة التي ينام فيها السيّد دوشنال الذي كان أعطى التعليمات بعدم إزعاجه.
انطلق القطار(قطار الرئاسة). وفي ‘روان’، كانت هناك برقيّة أخرى، بالانتظار؛ وهي تؤكّد أنّ الرجل الذي عُثر عليه هو السيّد دوشنال نفسه. عندئذ قرّر الفرّاش والسكرتير الخاصّ، أن يوقظا السيّد دوشنال. طرقا الباب، بلطف؛ ثمّ بقوّة، ولا من مجيب. دفعا الباب، ليُفاجَآ بالسرير خالياً، والنافذة مفتوحة.
بادر نائب حاكم مونتارجيس، فأخطر باريس. وأخذ السيّد’ميّوران’ ومدام دوشنال، القطار السريع المتجه إلى مونتارجيس على 12س10د. وفي المساء حملا دوشنال سيئ الحظ إلى قصر الإليزي.
***

من هو بول دوشنال؟ هو رئيس جمهوريّة فرنسا. ولد في 13 فيفري1855 في ‘شاييربيك’(بروكسال). رجل دولة فرنسي، ونائب من 1885 إلى 1920 ورئيس الجمعيّة الوطنيّة من 1898 إلى 1902 ثمّ من 1912 إلى 1920 فرئيس الجمهوريّة لأشهر قليلة. وقد استقال لأسباب صحيّة. وهو أديب مرموق، ومؤلّف كتب في القضايا الاجتماعيّة، وخطيب ماهر، وعضو الأكاديميّة الفرنسيّة منذ 1899.

***
أطلقت حادثة وقوعه من القطار(23ماي 1920)، المزعجة سيلا جارفا من النكت، في كلّ فرنسا. وكانت غاية الإمتاع والمؤانسة، عند المغنّين ورسّامي الكاريكاتور الذين وجدوا في الحادثة الغريبة، ضالتهم، جاعلين من الرئيس معتوها. وردّد الفرنسيّون مجمِعين:’ على كلّ ،هو لم ينسَ البيجاما. الأمر مدهش. ولكن هكذا حقّا’.
أجهزت حادثة القطار على ما تبقّى من عقل بول دوشلان، وهو الضعيف نفسيّا. بل كان متوتّر الأعصاب دائما. وقد أفضى به انتخابه رئيسا للجمهوريّة، بعد أشهر قليلة، إلى حالة انهيار. ويقول عنه الفرنسيّون إنّه كان منهكا عصبيّا ومصابا ب’النورستينيا’. وكان أوّل ما صرّح به عند انتخابه رئيسا للجمهوريّة:’ هذا الشعب انتخبني، وأنا لست جديرا به… جدران هذا القصر تسحقني…’ وقد تميّزت الأشهر الأولى من اعتلائه سدّة الرئاسة، بسلوك هيستيري، وأفعال تتجاوز الحدود والأعراف.
من ذلك مثلا أنّه دعا كلّ أصدقائه إلى مطعم’فوكاتس′ الشهير، في الشانزيليزيه، احتفاء بفوزه. وذات يوم، عبّر له عمدة’كاب مارتن’ عن أسفه، لأنّ زيارته كانت سريعة جدا؛ فما كان من الرئيس إلاّ أن أجابه في البداية بكل لطف:’ أعدك بأنْ أعود ثانية.. سأعود’؛ ثمّ وهو يصرخ:’ سأعود، لكن وحدي.. تماما وحدي.. وحيدا.. لا يرافقني أحد.. اليوم أنت ترى.. أنا محاط بالبوليس.’ ومرّة، أخذ يلتقط، من الوحل، الورود التي كانت تُلقـى عليه؛ ليرمي بها الجمهور،ثانية… وقد أزعج هذا السلوك حاشيته، والمحيطين به. ونُسجتْ حوله حكايات وقصص غريبة، وربما كان بعضها صحيحا. فقد قيل إنّه كان يستحمّ في أحواض القصر، مع البط؛ وإنّه كان يوقّع الوثائق الرسميّة، باسم نابوليون، و’ فارسينجيتوريكس′( محارب وقائد غالي عاش في القرن الأوّل قبل الميلاد).
وفي كلّ الحالات، فإنّ حاثة القطار، جعلته ينهار تماما؛ ولم يعد بمقدوره أن يترأّس الاحتفالات والأعياد والمناسبات الوطنيّة الكبرى، مثل عيد 14 جويلية. وأدرك أنّه ليس في مستوى المسؤوليّة التي يتحمّلها، فقدّم استقالته، بعد أسابيع قليلة من وقوعه من القطار. ولكنّ السيّد ‘ميّوران’ أقنعه، بالعدول عنها. ثمّ حاول، بعد أن قضّى الصيف في ‘رمبويّي’ أن يستعيد عافيته بيْدَ أنّه لم يفلح، وفي 21 سبتمبر 1920 قدّم استقالته ثانية، وكتب إلى الجمعيّة الوطنيّة’ حالتي الصحيّة لم تعد تسمح لي بالقيام بالوظائف المَنُوطَةِ بي’.
وقد قُبلتْ استقالته، فاعتزل في مصحّة ب’رايل’، واسطاع، شيئا فشيئا، أن يعود إلى سالف نشاطه؛ حتى أنّه ترشّح للجمعيّة الوطنيّة في 9جانفي 1921، وفاز منذ الدورة الأولى. ولكنّ هذا الانفراج لم يدم طويلا، فقد أصيبَ بول دوشنال بالجُناب(التهاب غلاف الرئة)،ومات يوم28 أفريل 1922.

ـ ملاحظة:
1ـ هذه السيرة حقيقيّة، وقد استأنست فيها بمراجع فرنسيّة، نقلتُ عنها بأمانة، ولكن بتصرّف بسيط عسى أن أضفي بعض التشويق.
2ــ شكر للصديق أنيس المنصوري الذي كان سبّاقا في الإشارة إلى دوشنال في صفحته على الفايسبوك


* شاعر وأكاديمي من تونس

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *