*زهير الهيتي
بإيقاع هادئ افتقدناه في عصرنا هذا تنسج صباح زوين كما ساحرة كلمات من صبر ولوعة وتضعها في ديوانها الشعري الموسوم بـ”كلما أنتِ، وكلما انحنيت على أحرفك”، الصادر عن دار “نشر نلسن” في بيروت، وتنسينا وقع الحياة الصاخبة التي نحياها على وقع “الربيع العربي” الذي تنذر تقلباته باقتلاع طمأنينتنا إلى الأبد، ثم لترغمنا على الإصغاء إلى أعماقنا التي نسيناها أو تناسيناها!
كقارئ أعترف بأني لم أستطع أن أتوغل بما فيه الكفاية في دغل الكلمات الشائك لديوان “كلما أنت، وكلما انحنيت على أحرفك”، في قراءتي الأولى. أما في الثانية، فقد تسلل شعرها إليّ وجعلني ابحر بعيداً في رحاب كلماتها المنتقاة بعفوية تميز الشعر الجيّد عن غيره.
الشاعرة صباح زوين، امرأة مزروعة في عالمها الخاص جداً والذي يفصلها عن الآخرين، جدران من البلور الشفاف تحكي من ورائها حكايتها: “لا أحد يسمعها، الجدران سميكة، لا تيأس.. تظل تزنّ مثل نحلة شهرزادية! امرأة مكلومة بلوثة الغرام والفقدان، الذي تأبى بوصلته إلا الإشارة نحو ماض بعيد ذهب، أو تذكرين كيف تحوّل ورق الشجر إلى حنين”.
عادة ما يكون فعل الغرام جسراً نحو المستقبل أو على الأقل جسراً للحاضر، لكن صباح زوين تعبر منه نحو الماضي وتأخذنا معها. تقلب المعادلة، تجعلنا نرى الأشياء التي لا يمكن أن نراها لولا هذا الحنين الطاغي الذي يحك بشرتنا وينظفها من تلبدات الحاضر. زوين تجعلنا كذلك أكثر رهافة، ننظر بحنين نحو الماضي ونتصالح معه! وعندما يتماهى ألمها مع آلامنا نفاجؤ بالخسائر التي خلفناها وراءنا على الصعيد الشخصي وكذلك بكم الاشياء الجميلة التي لم نمنحها حينها الألق الذي تستحق. تقول زوين: “وكلما هو يغرق ومعاً تغرقان في زرقة الغياب”.
قساوة الانتظار
تبدأ الشاعرة ديوانها بجملة: “لا تزالين هنا على حافة المكان، تنظرين إلى مسكات الباب، وأيضا إلى المرآة التي تكسرت لحظات هاربة أو دقائق مكدسة”، هي لا تترك للقارئ فرصة الدخول الآمن، تجرفه منذ الجملة الأولى في تيار شديد العذوبة وتقذف به في الملانكوليا لعيد اكتشاف ما فات وما هو آت!
أحيانا كنت أريد العثور على صوت الشاعرة، على أناها، الذي أجاد التخفي خلف “نثار ما تكتبين”، فلم أفلح فهي توحدت مع كلماتها ليتحول الإنسان لديها إلى كلمات فاقلع عن محاولاتي واترك لنفسي حرية التجوّل في غابة كلماتها وأكتفي بالدهشة والفرح في ذاك التيه الجميل المتقن.
الانتظار، موضع مهمّ في ديوان الشاعرة، فكما هو قاسي، يكون جميلاً. إنه فعل نمارسه ونحن نقف على حافة هاوية المشاعر، قد يكون وقد لا يكون، وعلى هذا المفصل الحاد كشفرة حادة تشتغل عليه الشاعرة بدقة مدهشة. تقول صباح زوين: “أحرف الذهب في فتحة الشباك كنت تنتظرين، إنها لعبة مرايا الوقت في انعكاسات الأمكنة، أنتِ التائهة في أروقة المعنى، أنتِ التي في البحث عن الحرف المطلق وعن اسمك النهائي دائماً تبحثين”.
يتحول هنا فعل البحث إلى نوع ميتافيزيقي من أنواع الانتظار، وهي تعرف بأن بحثها غير مجد وربما يصل إلى العبث، قد يأتي ..قد لا يأتي، إذا هو الانتظار نفسه، بأرق الأمل المصبوغ بألوان الزيف لكنه يبقى أملا، من يكون؟ من تنتظر؟
تقول الشاعرة، في هذا السياق: “الرجل الذي على العتبة بين الغسق وساعات المساء”. هنا أحيانا يأخذ انتظارها، وربما انتظارنا، بعداً فلسفياً أعمق وأبعد عن الكلمات التي نعرف، فيتحول إلى انتظار لزمن أجمل وأنقى، ربما الموت أم المُخلص!
سؤال الهوية
تيمة أخرى اشتغلت عليها الشاعرة صباح زوين بحذر شديد ربما تكون أكثر جدلية وصخب لكنها لم تفقد البوصلة واستطاعت أن تنثره بين كلمات الديوان بكل عناية ورقة، إنه “الهوية”، ذلك السؤال الوجودي الذي تستحيل الإجابة عليه، من أنا؟ من هو أو هي؟ من نحن ومن انتم؟ بدراية شعرية فائقة لا تصدم المتلقي بنوع من أنواع الفلسفة الجافة، تطرحه علينا..عليها! تقول صباح زوين:”لم تكوني على عتبة الليل يومها، أو لم يكن الوقت ليلاً عندما تساءلت حول اسمك ومعناك”.
لا أعرف إن كان التكرار في بعض الأحيان مقصوداً، فنحن جيل تربى على قراءة قصيدة الشعر الحر وتبقى قصيدة النثر تتأرجح بين الاعتراف والنكران، لكن ها هي الشاعرة صباح زوين تلوي أعناقنا برفق لتجعلنا نتلصص على قصصنا التي خلفناها وراءنا في عجلة لا تستحقها والتي سنخلفها في المستقبل، لنعاود استعادة الذكريات بحلوها ومرّها، ففي النهاية هي كل ما نملك. تقول الشاعرة: “كيف إلى كثافة اللحظة عندما تتكدس لحظاتك في إطار العين والذاكرة”.
_________
*(العرب)