*شوقي بزيغ
لطالما كان الموت مجال الكتابة الحيوي ومأزقها في الآن ذاته. فالخالدون لا يجدون ما يكتبونه، والإنسان يكتب لأنه كائن آيل إلى زوال، ولأن الكتابة في جوهرها استدراج للموت إلى ساحة غير ساحته وتحويله إلى حدث مجازي. لكن الموت هنا ليس فكرة لكي يتم تضليلها، وليس احتمالاً لكي يتم طرده من فردوس السعادة الموقت، وليس كابوساً في منام لكي نقهره بالاستيقاظ، وليس حالة وجودية لكي ندرأها بمسكنات الفلسفة والفكر. إنه الموت «الكامل» الذي يماثل الجريمة الكاملة. وهو الحرب المباغتة التي يعتقد الوحش في هذيانه الظلامي انه يستأهل بواسطتها المكان وأهله، حيث يختلط الحديد باللحم البشري، والجثث المتفحمة بالهواء المهترئ، والإسمنت المتداعي بالعقيدة المعادية.
فوق هذا المسرح الحدادي الذي لا يليق به سوى الصمت، تتحول اللغة بدورها إلى جثة إضافية. فالمذبحة لا الكلمات هي التي تفرض الآن شروطها على المشهد. والحريق لا يحتاج إلى من يتغنى بلهيبه بل إلى من يطفئه. والأبنية لا تحتاج إلى من يرثي أطلالها بل إلى من يرتق أمعاءها الممزقة. وقبل أن ندبِّج القصائد في رثاء الشهداء علينا قبل كل شيء أن نتعرف إلى حمضهم النووي لكي تستوي أشلاؤهم في نصاب صحيح ولا تتم تسجيتها في القبور الخطأ.
ليس الوقت ملائماً للتفكير بالاستعارات والتشابيه وشحذ اللغة على سكين الكارثة، وكل ما نكتبه سيكون أقرب إلى عمليات تجميل عقيمة لوجوه الموتى. بل الوقت الآن للتفكير في عشرات الساعات التي توقفت عقاربها فجأة عن الدوران، وفي مصائر الذين قضوا على حين غرة مضرجين بدماء طرية الأحلام لم تعرف طريقها بعد إلى التخثر. والوقت لكي نوقف الحريق قبل أن يلتهم كل شيء، ولكي ندرك أنه في غياب الدولة لن يكون الوطن سوى مسرح للعبث الأهلي والطوائف المتناحرة وفرق الموت وأجنحة العشائر العسكرية. والوقت الآن لكي نخرج من ثنائية الأبلسة والتأليه، وثنائية الخونة والمقاومين، ومن فوبيا الجماعات المذهبية التي تنتصر على الخوف بالبارانويا، وعلى الشعور الأقلوي بالقهر الماحق لحق الآخر المختلف بالإنوجاد.
ينبغي أن يكون هناك وقت لكل ذلك. ولكن وقبل كل شيء ينبغي أن نقول للضاحية، ولنا فيها أهل وأحبة وأصدقاء، أن الجناس اللغوي بين الضاحية والضحية ليس قدر الاسم ولا المعنى، وأن دمها المراق ليس فائضاً عن حاجة القلب، بل هو القلب والنبض وبوصلة القصيدة والطريق.
_______
*شاعر من لبنان (السفير)