*
وللأشجار أيضاً تاريخها وعواطفها. ولكنها قبل كل شيء، مصدر إلهام وتأمل للإنسان، منذ التاريخ القديم. والشجرة هي موضوع كتاب أستاذ التاريخ في جامعة السوربون، ألان كوربان، الذي يرى في الشجرة مصدر الانفعالات، منذ القديم وإلى الوقت الحالي، كما يقول العنوان الفرعي للكتاب. وعنوانه الأصلي: “لطافة الظل”.
يصف المؤلف الشجرة، أنها مستودع أسرار البشر، الذين يتوجهون إليها ليبوحوا لها بما يعتمل في داخلهم. وكذا أنها المحاور النباتي والروحي. ويبحث كوربان في مضمون ما لدى قدماء المؤلفين والمفكرين، حول الموضوع، وفي خرافات وأساطير العصور الوسطى.
كما في روايات وأشعار المعاصرين من آثار العلاقات بين البشر والشجرة. والتوصيف الأساسي الذي يؤكد عليه المؤلف، بأشكال مختلفة، في هذا الكتاب، عن الشجرة هو أنها “طيّبة بالضرورة”. ويرى فيها، كما يشير، ما كان الفيلسوف جان جاك روسّو قد رآه في الطبيعة بشكل عام.
ثم إن الشجرة تمثل نوعاً من “صلة الوصل” بين القبّة السماوية والعالم الأرضي. أما علاقة البشر بالشجرة، فيرى فيها المؤلف قدراً كبيراً من التناقض والمفارقات. هكذا مثلاً لم ير فيها أخصائيو النبات المسيحيون، خلال قرون عديدة، سوى أغصانها التي أثارت الاهتمام باعتبارها تشرأب نحو السماء،.
وليس الجذور التي تتعمّق في الأرض، أو إلى ما يمكن أن يدل على الجحيم. وبهذا المعنى، ترمز أغصان بالنسبة لأولئك الأخصائيين، إلى التسامي والاقتراب من السماء. ويشرح المؤلف أن للجذور في الخيال المسيحي طبيعة سفلى يحيط بها الصمت والخفاء. وبالتالي توحي بـ”الرعب”.
ويشير المؤلف في السياق، إلى شخصية تيلمارش، المتسوّل الذي رسمه فكتور هوغو، الذي كان يعيش في جذور شجرة ضخمة، ولا يبالي بالبشر وبعالمهم. ويصفه هوغو كأنه تجسيد للقوى الظلامية. وكذا الكاتب الأميركي دافيد تورو، رأى أن الجذور تتضمن رغبة تدفع نحو التوحش والانكفاء نحو عالم سلبي للحياة. أما الروائي البريطاني د. هـ. لورنس، فتحدث عن الطمع الهائل للجذور.
يركّز المؤلف في هذا العمل على حضور الشجرة في أعمال كتاب المفكرين والمبدعين والفنانين في جميع المشارب. هكذا يجد القارئ نفسه أحياناً بصحبة جوسلان، بطل أحد أعمال لامارتين وهو يردد: “كنت أتنقل من جذع شجرة إلى آخر، وأنا أطبع عليها كلّها القبلات”.
وما يؤكده المؤلف، أن طقوس تقبيل جذوع الأشجار تمثل ممارسة عرفها التاريخ منذ القديم، منذ الطقوس الرومانية القديمة، وحتى تلك التي تمارس حالياً باسم حماية البيئة، ومروراً بـ”الورع المسيحي” حيال الشجرة. وبهذا المعنى بالتحديد يشدد المؤلف على أن للشجرة ولعلاقتها مع البشر، تاريخاً حقيقياً.
. إنها علاقة وثيقة كما يبدو من خلال الشهادات التي يقدمها المؤلف لهيزويد وفيرجيل وهوغو ودانتي ورونار، والمئات غيرهم ممن رأوا في الأشجار كائنات حية تحدّثوا معها، على اعتبار أنها تحمل قيمة رمزية كبيرة.
ويشرح المؤلف أن الشجرة كانت ترمز في العديد من الحضارات القديمة، إلى صورة البشر، وأحياناً الشيطان. وهكذا قدّم الرسّام جيروم بوش الأشجار في لوحته التي تحمل عنوان: “حديقة المتع”، وكأنها رموز للإغواء والإغراء.
ومهما يكن من أمر الأشجار، يرى المؤلف أنها تبدو خالدة بالمقارنة مع الإنسان. فهناك شجرة حور في ولاية “اوتاوا” يبلغ عمرها 90000 سنة، وشجرة سنديان في كاليفورنيا عمرها 13000 سنة.
وهكذا، يرى المؤلف أن “الأشجار تنتمي إلى زمن غير زمننا”. وطول عمرها يرمز إلى قصر عمر البشر، إذ إنها تشهد مرور أجيال متعددة من بني الإنسان. والشجرة هي أيضاً شاهد صامت على التاريخ الإنساني، بل وعلى فترة ما قبل التاريخ.
المؤلف في سطور
يشغل ألان كوربان، مؤلف الكتاب، منصب أستاذ تاريخ فرنسا خلال القرن التاسع عشر في جامعة السوربون. من مؤلفاته: أرض الفراغ، أجراس الأرض، تاريخ المسيحية. كما أشرف على كتاب “تاريخ الجسد”- المؤلّف من ثلاثة أجزاء.
الكتاب: لطافة الظل.. الشجرة: مصدر الانفعالات منذ القديم حتى اليوم
تأليف: ألان كوربان
الناشر: فايار- باريس- 2013
الصفحات: 348 صفحة
القطع: القطع: المتوسط
La douceur de lصombre
Alain Corbin
Fayard- Paris- 2013
348 pp
_______
*(البيان)