*مولاي علي
(ثقافات)
لا تستعيد الذاكرة، سطوةَ شاعرٍ بقَدْر وقُدْرَة محمود درويش يمكُرُ بالنسيان، بمحض ذكرى موت. و هو الماثل دوما في “حضرة غيابه”، “متظاهرا” فقط، ـ كما ينبغي أبدًا للشعراء ـ بالموت!
لكنَّ شاعرا يوغل في الإدهاش كلَّ قصيدة، يُغري ـ كلما سنحت صُدفة ـ بالكتابة عنه، و لئن كان مَن يكتب لن يستطيع الفكاك من لغته؛ لن يستطيع الفكاك منه، و هو يكتب عنه؛ هكذا تسبقه الدهشة ـ بخفّة حُلُم ـ إلى حيثُ ينأى عنها هاربا إلى..وَهمِ مسافة!
في البدء كانت القصيدة، غنائيّة، تتشبّث بالإيقاع القادمِ من أوّل الحنين، في حديث الراعي إلى الصدى. و حداثيةً، جديرةً بأنِها و مكانِها، تستحثّ اللغة القديمة، صوب الأقاصي التي لم تبلغها بعد..صوب البعيد البعيد.
منذ أول ديوان (عصافير بلا أجنحة)، لم يكن محمود درويش الشاعر مكتملاً و أخيرا ـ و هو الذي “ولدَ على دُفعات” ـ؛ لكنّه ظلَّ ـ عن وعيٍ و اشتغال ـ قادرا على تجاوز ذاتِه..بحثا عن ذاته، الواحدة المتعددة المتجددة.
الشاعر الإنسان الذي اختًزل ـ تعسفا ـ في شرط هويته التاريخية الحاضِرة، وجدَ ذاته المظلومة التائهة، في مأساة الذات الفلسطينية، مثلما وجدَها في مأساة الأندلسي، و الهندي الأحمر، و الكردي، و الإفريقي. و مثلما خاطبَ ذاتَه الأخرى في الجندي العدو الذي “يحلم بالزنابق البيضاء”!
تلكَ “هوية الروح” التي دلّت عليها واهتدت إليها إنسانية العربي الفلسطيني: محمود درويش. بحدس جمالي نادر، و رحيل دائبٍ إلى المعنى.
تعدد الذات الشاعرة هُنا، توازيه ازدواجيتها ـ تعبيرا آخرَ عن إنسانية أصيلة ـ، في حديث (الأنا) و (الآخر)، و (هي و هو).
شعرياً، لم يَمرض الإيقاع في قصيدة محمود درويش في انتقالها من حديث الجماعة إلى حديث الفرد، و من السرد و الحوار إلى الرؤية، و من قصيدة النَّفّس القصير، إلى الملحمة، ثم إلى القصيدة المًوجزة، الملأى بحكمة ناضجة في متناول أي قارئ، دون أن تتنازل عن سموّ معناها المغلّف برمزية شفّافة، و الهارب دوما إلى احتمالاتِ تأويل جديد.
ظل محمود قادرا على الإمساك بخيوط الحساسية الشعرية في لغة اختصر فيها “هويته” و “معجزته” و “معدنه الصقيل”؛ في لغة أيقنَ أنها الفردوسُ المُضاع، و أدمنَ استخلاصها شعرا و نثرا، بمهارة صائغ، و بمكابدة عاشق.
“أنا لغتي”….هُنا التجلّي. و هُنا الدليل إلى سرّ سطوة الشاعر على كل هذا الجمهور الممتدّ “من آخر البحر إلى آخر الصحراء”، و سرّ بلوغه شأوا عاليًا لم يستطعهُ شاعر في اللغة العربية منذ أبي الطيب أحمدَ بن الحسين. و العُهدة…على قارئ!
لكن السرّ لا يكتمل دون النظر ـ و في البال الاستماع كذلك ـ إلى الحضور الشعري لمحمود درويش، من خلال النبرة و اللفتة و الحركة، في إيقاع سمعي بصري يحتذي إيقاع القصيدة. و هذا ما جعل شعر محمود درويش مادّة و روحا، لعناقِ عربي حداثي نادر، بين اللحن و القافية؛ بين الشعر و الموسيقى، بحساسية جديدة و وفيّة في آن معًا لصدى الماضي. فهو في المحصّلة شاعرٌ مقروء و مُغنّى.
دونَ وعدٍ ببداية أو نهاية، ومستسلما بطواعيةِ قارئ،لبداهةٍ مُبتَكَرة، ودهشة مُباغتة، أسلمُ الروحَ في ذكرى الرحيل، إلى”أغنية” من أغانيك. وأُلقي نقطة كاذبةً في آخر السطر.