*يوسف يوسف
(ثقافات)
صورة الانسان في وسط إطار بصرف النظر عن المادة المصنوع منها تعني موته ، حتى لو كان هذا الاطار من الخشب الذي يسهل تحطيمه والخروج منه . وبصرف النظر عما يأتي به النص القرآني المقدس من التفسير لحادثة قيام قابيل بقتل أخيه هابيل ، وهي الحادثة التي انتهت على وفق كتابات ورؤى مغايرة لما في النص القرآني بزواج الأول القاتل من توأم الثاني المقتول في وقت كان الدين فيه يحتم زواج الشاب قابيل من توأمه – شقيقته هو وليس من شقيقة أخيه هابيل ، فإن تلك الحادثة في الجانب الآخر لمعنى وقوعها على النحو الذي يفيد بأن قابيل لم يكن على استعداد للاذعان لأمر أبيه الذي هو نبي في الوقت نفسه ، وأنه إنما ولربما بدون أن يقصد ذلك ، قدم الأساس الأول الذي ستقوم عليه مختلف التأسيسات التاريخية اللاحقة ، لمعنى ودوافع التمرد عند الانسان ، من حيث أنه – التمرد – جزء من الكينونة التي ستصاحب الانسان ما دام على قيد الحياة وفوق الأرض ، بصرف النظر إن كان الرادع أبا أو نبيا أوعرفا اجتماعيا ، أو ما سوى ذلك من الأنظمة والقوانين التي تضعها الدول والحكومات في التأسيس للمجتمعات التي يكونها الأفراد ، بصرف النظر إن كان قابيل منهم أم هابيل، إذ لربما لو لم يكن قابيل – صاحب القربان في النص القرآني الذي هو الباحث عن المرأة الأجمل في النص الدنيوي المتخيل قد أعلن عن تمرده بقيامه بفعلته الشنيعة تلك – قتل الأخ ، فإن هابيل ربما كان سيعلن عن مثل هذا التمرد هو الآخر ، وبالصيغة ذاتها التي رأيناها أو بغيرها ، سيان ، فالأساس الذي نراه إنما على النحو الذي يشير إلى أن الاثنين كليهما لكل واحد منهما رؤيته ، التي ستدفعه باتجاه الخروج من الاطارالذي تم وضعه فيه – إطار وصية الدين وإطار وصية الأب آدم الذي لا بدّ أن يكون قد عرف بنية قابيل في قتل أخيه .
ومعنى هذا فإن هذه السطور لا يرى كاتبها بأن فكرة الاطار جديدة النشوء ، قيدا أيديولوجيا كان هذا الاطار، أو قيدا سلوكيا ، أو غيرهما مما ظهر من الأطر خلال آلاف السنين من وجود الانسان فوق هذه الأرض ، وتنطعه كمثل الكبش الغبي لحمل الأمانة التي أوكلها إليه رب المخلوقات مع أنه كان في الوقت نفسه قد منحه فرصة الرفض وعدم حملها. بل إنها أقدم من هذا ، وما حادثة القتل سوى إشارة ليس فقط إلى واحد من الدوافع الأساسية التي يتحرك الانسان من حيث هو كائن بموجبها وأغفلتها مدارس علم النفس في معالجاتها . إنها علامة دالة إلى وجود إطار كان على قابيل العيش فيه ، والقبول بتعاليمه ، الربانية مرة ، والأبوية مرة أخرى . لقد كان في مقدوره في حدود ذلك الاطار اختيار الصمت ، والعودة إلى البيت بدون القيام بأي من الأفعال التي قام بها، حتى وإن كان قد عرف بأن الرب قد رفض القربان الذي تقدم به إليه . إنه لو اختار الصمت ، لما كان قد مارس التمرد بقتل الأخ وانتهاك حرمته ، ولما كان قد أعلن حتى عن انزعاجه بسبب رفض القربان الذي تقدم به إلى الله الذي قبل قربان أخيه قبولا حسنا ومشجعا له كإنسان .
بيد أنها الرغبة بالتمرد من جعلته يفعل ما قام به . وهي ما ستبقى تصاحب الانسان في حياته حتى بعد انقضاء عصر الأب الأول – النبي آدم ، والجد قابيل الذي تمرد على جميع ما كان عالمه يتكون منه : الأب آدم المخلوق المرئي الذي كان يعيش على مقربة منه ، والرب العالي غير المرئي الذي يتخفى وراء أوامر ووصايا آدم الذي لا نعرف حقا كيف كان يمضي وقته ، وما الذي كان يقوله لمن كانوا حوله : أولا لزوجته حواء التي تقاسمت معه الفعل الذي أخرجهما من الجنة ، الاطار الجميل الذي وجدا نفسيهما فيه ، وثانيا لابنه قابيل – القاتل الذي تمرد على الاثنين : الرب والأب ، وعلى ما أسديا إليه من الأوامر والنصح جميعها معا .
إننا في الحديث عن الأطروتمرد الانسان عليها حتى لو كانت الجنة مستقره كما نلاحظ في حكاية آدم وحواء ، لا يغيب عن أذهاننا بأن كل ما سنراه إنما قد رتبته ونظمته حركة من نوع ما في العقل ، الذي هو نفسه في دالته الوظيفية عند مختلف البشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأماكن عيشهم والأزمنة التي يظهرون فيها ، والملابس التي يسترون بها عوراتهم ، بصرف النظر إن كانت من ورق الشجر كمثل تلك التي استخدمها آدم وبنوه في عصرهم ، أم من القماش الذي ما كان جدنا قابيل قد عرفه ، يوم لم يستطع أن يخفي رغبته في الخروج من داخل إطار الدين ووصايا الأب ، الذي أراد أن يؤسس في حينه مجتمعا ، وهو الذي كان في الوقت نفسه قد سبق ابنه في الخروج من الجنة مكان فعلته الشنيعة الاولى في تاريخ البشر ، والتي لا مناص من القول بأنها إنما كانت تمردا في بنيتها الفلسفية ، حتى وإن اختلفت آراؤنا وتباينت في تفسيرها ، وفي ماهية الهدف الذي كان يسعى آدم الأب إليه : البحث عن الخلود ، أو الاذعان للرغبة الكامنة في أعماقه التي تكلم عنها لاحقا وبعد آلاف السنين سيجموند فرويد ذلك الألمعي في تفوقه .
الصورة في داخل الاطار ترهص برغبة صاحبها بالخروج من بطنه في أية لحظة قادمه يختارها للقيام بهذا الخروج . هذا القول إنما يتحرك في مجال الحتمية التي لا بدّ منها ، وليس من نوع التكهن بالمحتمل من الوقائع والأحداث . لقد قال كارل بوبر في كتابه ” أسطور الاطار” بأن السجون أطر ، وأن أولئك الذين يمقتونها سوف يعارضون أسطورة الاطار. هذا قول جميل ولا شك ، ولكنه من الجميل القول كذلك بأن الاطار الذي توضع صورة إنسان ما فيه ، إنما هو سجن ، وهكذا فإذا كانت السجون من وقفيات الموت الوجودي للانسان ، فإن الأطر هي الأخرى من الوقفيات ذاتها ، حتى لو بدا أصحاب الصور في أفضل حالات التجلي وبما يشير إلى جمال الواقع الذي يعيشون فيه.
إنها مسألة وقت ولن تمضي الأمور في اتجاه آخر مغاير . لربما يرى البعض بأن تمرد آدم إنما بسبب ما تركه فيه إبليس من التأثير ، بيد أن مثل هذا التفسير إنما يأخذ بالظاهر ولا يذهب إلى الأعماق . إنها فتنة الذات – إعجاب آدم بنفسه ، وجدل الداخل- داخل آدم وحواء كليهما معا وليس أحدهما دون الآخر ، ما مهد الطريق أمام إبليس ليحول آدم إلى رجل تتدفق منه ذكورته مرة ، ورغبته بالخلود مرة أخرى ، وليحول حواء هي الأخرى إلى أنثى يدفعها الحريق للبحث عمن يطفئ نارها . إنها واحدة من سنن الله في خلقه ، وإلا لماذا لم يذعن آدم لأمرالرب وقبل بارتكاب المعصية في مقابل الخروج من الاطار – الجنة التي وضعه خالقه فيها ؟ صحيح أن الثمن كان باهظا ، بيد أن ما وقع ، جعل الرجل الأول يرى الأغلال في يديه ، بعد أن لم يكن قد اكتشفها حتى ذلك اليوم المنحوس، الذي اكتشف فيه أيضا خامة التمرد الغائرة في أعماقه .
________
* كاتب من السليمانية-كردستان