تاريخ الفن و’لسان العرب’: اللات وعشتروت وجهان لعملة واحدة




*شاكر لعيبي

أولاً: في الأصل اللغوي لعشتروت وعشتار أنهما من الفعل (عَشَرَ، معاشرة، عشيرة) ذي القرابة الدلالية والصوتية مع (عتر، وعترة)، فالأول من «العِشْرَةُ: المخالطة، وعَشِيرَة الرجل: بنو أَبيه الأَدْنَونَ، وقيل: هم القبيلة، والجمع عشائر، والعَشِير: القريب والصديق، وعَشِيرُ المرأَة: زوجها لأَنه يعاشرها، وقوله تعالى: لَبِئْسَ المَوْلى ولَبئْسَ العَشِير؛ أَي لبئس المعاشر. ومَعْشَرُ الرجل: أَهله».

والثاني: من «عِتْرةُ الرجل: أَقْرِباؤه من ولدٍ وغيرهِ، وقيل: هم قومُهُ دِنْياً، وقيل: هم رهطه وعشيرته الأَدْنَون من مضى منهم ومن غبر». ومن ذلك «العِتْر العَتِيرة، وهي شاة كانوا يذبحونها في رجب لآلهتهم» بالغة الأهمية لقرابتها مع عشتار، كأنها ذبائحها مع انسلال صوتي منطقيّ من عتيرة إلى عشيرة، كأن العشرة والعترة شيء واحد.
الأول: (عَشَرَ، عشيرة) يفسّر لنا القرابة الحميمية لعشتروت مع الثاني (عَتَرَ، عترة، عتيرة) الذي تستمد الربة عترجاتيس منه اسمها عبر الانسلال الصوتي ذاته.
ثانياً: كانت عشتروت، ربة الخصوبة وآلهة الحرب الفينيقية، الآلهة الرئيسية لمدينة صيدا الساحلية. كانت هناك مراكز رئيسية أخرى لعبادة عشتروت في صور وجبيل، وأخرى في قرطاج وسردينيا وصقلية وقبرص. الإغريق ربطوها بأفروديت.
زمن غورديان
في عملة من زمن غورديان الثالث Gordian III 238-244م على قفاها يظهر اسم صُوْر «COL TVR METR»، ونرى فيها معبد عشتروت من ستة أعمدة، وقوس. الربة في الوسط تضع شيئا غير أكيد على ميدالية النصر (التروفيه) إلى يسار الصورة. نايكه يميناً، المذبح يحيط به النخيل والمُرَّيْق(1).
وفي عملة أخرى من زمن غورديان الثالث ضُربت في بيروت القديمة Berytos الظاهر اسمها بالنقش «COL IVL AVG FEL / BER». ثمة معبد رباعي الأعمدة tetrastyle، في داخلة تمثال نصفيّ لعشتروت مع قرن الوفرة والنسر العسكري. يظهر أيضا على العملة ذاتها بوزيدون Poseidon وبيرويه Beroe (وهذه بنت أفروديت وبطلة تمثل بيروت) ونايكه. نموذج فائق الأهمية لأنه يبين تفوّق عشتروت على جميع الأرباب في فينيقيا بسبب ظهورها الطاغي وحضورهم الخافت جوارها.
في عملة من زمن فاليريان Valerian الأول. 253-260م. ضُربت في بيروت، نرى عشتروت واقفة مواجهَةَ، قَدَمُها على مقدّمة مركب، تحمل راية على شكل صليبيّ وأفلاستون (aphlaston: موتيف زخرفي للمراكب الخشبية)، وترفع هُدْب الثوب اليونانيّ الخيتون chiton، إلى اليسار، نايكه على عمود وهي تتوّج عشتروت. هناك نموذج آخر لهذه العملة من زمن كورنيليا سالونينا.
وفي عملة من زمن ماكرينوس 217-218م، ضُربت في صُوْر. عشتروت تضع يدها على تذكار الفوز (التروفيه) وهي تتوَّج من قبل نايكه فوق العمود القصير إلى اليمين، شجرة النخيل بين التروفيه وعشتروت، ومحارة المُرَّيْق بين عشتروت والعمود.
إينانا-عشتار
قبل الإشارة إلى عملة الإمبراطور إيل جبل Elagabalus (حوالي 203م – 11 آذار 222م) نشير إلى أنه رجل سوري من جهة أمه، وإمبراطور روماني من أسرة سيفيروس. حكم من 218م إلى م222. قضى شبابه ككاهن أعظم لإله الشمس الحمصي. أبوه الرومانيّ هو سكتوس فاريوس مارسيليوس
وقد دُعي باسم ايل جبل بعد فترة طويلة من وفاته. بعد مقتل الإمبراطور كاراكلا استلم ماركينوس الحكم، ولكن بفضل جدته جوليا ميزا وبدعم من الفرقة الثالثة المرابطة قرب مصياف تم تنصيب إيل جبل على العرش وله من العمر أربعة عشر عاماً بعد هزيمة ماركينوس في معركة أنطاكية عام 218م. خلال حكمه أظهر ايل جبل تقاليد جديدة من أصول ساميةّ اعتبرت إهانة للتقاليد الرومانية، فقد تزوج خمس مرات واستبدل عبادة الإله جوبيتر بإله الشمس وأجبر العديد من القادة الرومان على عبادته. في عام 222م تم اغتياله مع والدته.
اشتهرت حمص Emesa أيام الرومان بهيكل للشمس والحجر الأسود الذي هو نيزك سقط في المدينة فأقيم له ضريح في هيكل وعُبد على أنه رمز الإله، إنْ لم يكن هو الإله نفسه، ليصبح الهيكل محجّة للزائرين (المصير اللاحق لهذا الحجر يستحق التدقيق).
وكانت سدانته بيد كاهن كبير من أحفاد آل شميسغرام اسمه باسيانوس. عملة إيل جبل المضروبة في صور تُظْهِر معبد عشتورت وهي تشخص في داخله.
أما في عملة تراجان 98-117م، صُوْر، فإننا نرى عشتروت في داخل معبد رباعيّ الأعمدة، بينما نايكه على عمود يمين الربّة. وأخيراً العملة التي ترقى إلى زمن غاليانوس Gallienus 253-268م، صُوْر، حيث معبد عشتروت سداسيّ الأعمدة، والربة الفينيقية تقف في وسطه.
في العملات التي ننشرها هنا نلحظ أن عشتروت ترتدي القبعة المعروفة لتايكي، سوى في عملين، عُملتي فاليريان وكورنيليا سالونينا حيث القبعة الطولانية تذكرنا بقبعات مماثلة ظهرت بتكرار على رؤوس السيدات في الفن الفينيقيّ (انظر مثلاً قبعة النحت المسمّى سيدة قرية يانوح La Dame de Yanouh، جرود شمال لبنان، متحف بيروت الوطني). في الأعمال التي نراها فيها تضع قدَماً على المركب، نجدها ترفع أطراف ثوبها حتى نرى ساقيها المثيرتين، لتبدو بصورة إيروتيكية بعض الشيء. وهنا تذكِّرنا بألاعيب جدتها السومرية ثم الأكادية (إينانا-عشتار).
قرابة داخلية
كما ترينا العملات بوضوح، فإن مظهر اللاّت لن يكون بُدعاً عن مرأى عشتروت اسمها الآخر، خاصةً وأن زمن إنجاز الأعمال متقارب نسبياً، ولأن القرابة الداخلية بين الربتين لا شك بها، بل هي أكبر مما نتصور للوهلة الأولى. ولكي نبسَّط الأمر دون إخلال نعود إلى شروحات دو بويسون (ص137-138): «كانت عشتارت-أوروبه بالأصل الربة الكبيرة لمزارات صُوْر، ولعبت دوراً مماثلاً في معبد صيدا. نجد الأدلة في أسطورة كيريتKérét (المكتشفة في) رأس شمرا، إذ حسب ألواح القرن الرابع عشر ق. م. هذه عندما جاء البطل إلى صور وصيدا، لم يكن لديه شيء أكثر إلحاحاً من زيارة الربّة المحلية الكبيرة (يقول النص): «الصُوْريون عند حَرَم عشتروت وعند إيلات الصيدونيون». حرفياً: قدش عترت صورم وليلت صيدونم (qdš atrt srm wlilt sdynm). اسم إيلات (أو اللاّت) يشير إلى زوجة أيل وهي ليست سوى تسمية مختلفة لعشتروت»(2).
لكن عشتروت الفينيقية اقترنت بأوربه Eurôpê والكلمة الأخيرة من الاشتقاق الفينيقي Ereb: الغروب، ويُقصد بها في الميثيولوجيا اليونانية أميرة فينيقية، بنت أجينور Agénor ملك صُوْر وتليفاسا Téléphassa، وأخت قدموس. وقد مَنحت اسمها للقارة الأوربية. لا نتحدث هنا بعد عن القارة وإنما عن اسم علم فينيقيّ Eurôpê، يقرأه عامر رشيد مبيض «عربة» كاسم لأميرة عربية أمورية سورية، أخت قدموس (وهذه قراءة منطقية، انظر عربة في لسان العرب فيما سيلي).
يمضي دو بويسون إلى القول بشأن تبادُل الأسماء بين عشتروت وأوربه (أو عربة): «يمكن ملاحظة ذلك في نص آخر من رأس شمرا، حيث الاسمان (عشتروت وأوربه، عربة) يُتبادَلان أيضا. في زمن لوسيان، القرن الثاني الميلادي، كان كهنة صيدا يتذكرون بعد أن معابدهم قد كُرّستْ إلى أوربه قبل أن تكون لعشتروت. في القرن الرابع الميلادي، شاهد الشاعر اليوناني أخيل تاتيوس Tatius الرسومات التي تصوُّر اختطاف أوروبه»(3). عربة أو أوروبه صفة لعشتروت في الغالب الأعمّ.
إن الدرس الأساسي المستخلص من صورة عشتروت الفينيقية هو التالي: ثمة ظهور متسلسل متشابه أيقونياً للربة نفسها بأسماء متعددة، يبدأ من عشتار الرافدينية ثم عشتروت الفينيقية ثم اللاّت العربية. جميع الأعمال التي عرضنا لها تبرهن على ذلك.
مراجع
1 والمُرَّيْق: murex ضرب من الرخويات البحرية ينتج صبغا أرجوانيا.
2 Comte Du Mesnil Du Buisson: Origine et évolution du panthéon de Tyr, In: Revue de l’histoire des religions, tome 164 n°2, 1963. pp. 133-163.
3 نفس المصدر السابق (دوبويسون).
________
*(العرب)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *