*محمد الحمامصي
يتساءل الكثيرون حول العلاقة التي تربط التيارات والجماعات السلفية بالجماعة الإخوانية للدرجة التي تلتحم فيها مع الجماعة وتشكل بمثابة شريك أساسي لها في مشروعها التمكيني لإقامة الخلافة أو الدولة الدينية، وتدفع بعناصرها لتأييد المرشح الإخواني للانتخابات الرئاسية وحتى مجيئه رئيسا والعمل معه والانضمام إليه تحت لواء مكتب الارشاد في كل القرارات التي كان يمليها على الرئاسة، بل الاشتراك مع مكتب الارشاد في إقامة الهيئة الشرعية لشيوخ ودعاة الجانبين، حتى إن الانقسامات التي جرت داخل حزب النور وطرد مساعدي الرئيس السلفيين من الرئاسة لم تؤثر على التحالف السلفي مع الجماعة ومناصرتها في كل ما اتخذته من مواقف بما فيها الدستور المشوَّه والاصرار على أخونة الدولة المصرية.
هذه الارتباط بين التيارات والجماعات السلفية بالجماعة الإخوانية يخصص الباحث الراحل حسام تمام في كتابه الأخير “الإخوان المسلمون سنوات ما قبل الثورة” التي صدرت أخيرا طبعته الثانية، فصلا أطلق عليه “تسلف الإخوان”، يكشف للمتابع أصول الأمر وأن ما يجري في مصر الآن من تحالفات الأحزاب والتيارات السلفية مع الجماعة أمر طبيعي، وأن تأييد قواعدها وقادتها للإخوان في الاعتصامات والتظاهرات نابعا من تقارب فكري وليس مجرد مصالح فقط، حيث يقرر أن الإرباك الذي ظهر مؤاخرا للجماعة الإخوانية ـ يقصد العشر سنوات الأولى من الألفية الثالثة ـ هو نتاج نمو توجهات سلفية كامنة في جسم الجماعة تخرج بها عن نطاق الحركة الجامعة ذات الرؤية التوفيقية التي عرفت بها في مرحلة التأسيس نحو “حالة من التسلف أو التحول إلى السلفية، وهي توجهات تعكس تحولات داخلية تتعرض لها التركيبة الإخوانية منذ فترة ليست بالقصيرة بحيث صارت السلفية تيارا فاعلا بل وأكثر التيارات فاعلية وتأثيرا داخل الإخوان”.
يرى الباحث أن الجماعة مرت بحالة من التحول للسلفية الوهابية منذ أوائل الخمسينيات وتعززت مع اشداد الحملة الناصرية على الجماعة وفرار عدد من كبار قادتها واستقرارهم بدول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية محضن التيار السلفي الوهابي، ثم تأكدت في حقبة السبعينيات التي شهدت أقوى انطلاق للتيار الوهابي خارج حدود السعودية، وقد دعمها مشروع التحديث الذي انطلقت فيه المملكة آنذاك. إضافة إلى التحولات التي أعقبت انكسار المشروع القومي الناصري بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، ثم موت جمال عبدالناصر 1970، ثم الطفرة البترولية وارتفاع أسعار النفط عقب انتصارات أكتوبر/تشرين الأول 1973، التي استفادت منها دول الخليج، وكان مما ساعد الدعوة الوهابية على مد نفوذها الديني في الكثير من أنحاء الإسلامي ومنها مصر، ثم استثمرت السلفية كثيرا من انكسار مشروعات إسلامية أخرى في مقدمتها الاخوان المسلمين نفسه بدءا من منتصف التسعينيات من القرن الفائت.
الموجة الأولى لتسلف الإخوان بدأ إذن في السعودية حيث “شكلت المملكة الملاذ الأول لقيادات الجماعة وكوادرها الهاربة من ملاحقات النظام الناصري ففتحت أبوابها لأعضاء الجماعة الهاربين ومنحت جنسيتها لعدد كبير من رموزها وقادتها. فقد لعب سعيد رمضان مثلا صهر الشيخ حسن البنا دورا مهما في تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي بدعم سعودي وأصبح الشيخ مناع قطان الأب الروحي لإخوان المملكة وعلما دينيا هناك، ثم الشيخ عشماوي سليمان ومصطفى العالم وعبدالعظيم لقمه الذي بدأ نشاطا اقتصاديا كبيرا في المملكة حتى صار واحدا من كبار أثريا الإخوان في العالم، لذلك كله سيكون عمق التأثير السعودي الوهابي في الاخوان نتيجة طبيعية لازدياد أهمية التحالف الاستراتيجي بين الإخوان والمملكة، مرة بسبب أهمية المملكة كدولة محورية في الانقسام الإيديولوجي العربي آنذاك بين محوري مصري الناصرية والسعودية ومرة لأن السعودية ستثمل للإخوان بدءا من تلك الفترة نموذجا لإسلامية الدولة.
ويؤكد حسام تمام أن هذه بداية التلاقح بين السلفية الإخوانية والسلفية الوهابية الصاعدة، وأن الموجة الثانية تمت في السبعينيات حين خرج الإخوان من السجون في عهد السادات وبدأ موسم الهجرة إلى الخارج بالنسبة للآلاف منهم ممن فقدوا مستقبلهم الوظيفي بفعل الاعتقال، وطبعا شكلت دول الخليج وعلى رأسها السعودية الوجهة الأكثر تفضيلا، “ويمكن أن تعد هذه الموجة الثانية حاسمة باتجاه تسريع مسار التسلف لدى الإخوان على مستويين اثنين، المستوى الاجتماعي الذي تم بفعل معايشة السلفية الوهابية بشكل مباشرة في البيئة السعودية، أما المستوى الثاني فسيكون تنظيما وسيتم في مصر، وهي موجة تمت في ظروف الفورة النفطية الكبيرة التي اجتاحت مصر والمنطقة”.
ويلفت إلى أن السلفية في موجتيها الأولى والثانية السعودية تسربت إلى الإخوان في سياق سياسي واجتماعي دقيق داخل المملكة فوجود النساء والأسر الإخوانية في بيئة مغلقة نقل إليها تدريجيا المزاج السلفي وتمظهراته الظاهرة للعيان مثل النقاب والتشدد في الملبس بشكل عام، وقلت مساحات الانفتاح على الفنون والآداب وأنماط الحياة التي كانت معروفة ومقبولة لدى الجماعة الاخوانية”.
مع عصر السادات وخروج قيادات الإخوان والانفراجة في العلاقات المصرية السعودية وعلى قاعدة التصدي للمد الشيوعي السوفياتي في المنطقة وتراجع دور الأزهر الشريف دخلت السلفية الوهابية ووجدت طريقها إلى شباب الاتحادات الطلابية بالجامعات المصرية والجماعات الإسلامية والعديد من قطاعات المجتمع في صور وأشكال مختلفة مدعومة من هيئات دينية سعودية رسمية وغير رسمية، ويلتقى كل ذلك مع المكون السلفي في البيئة المصرية من خلال جماعة أنصار السنة القريبة من الفكر الوهابي “وكان مؤسسها حامد الفقي أول من نقل رموز السلفية الوهابية لهذا الجماعة، وسنجد أن أغلب من حاضروا لطلبة الجماعات الإسلامية في الجامعات كانوا ينتمون لهذا الجماعة، ثم كانت المكتبة السلفية المهمة التي كان يملكها محب الدين الخطيب في القاهرة التي شكلت مصدرا هاما مد طلاب هذا الجيل بالأدبيات السلفية التي كانوا يتدارسونها بل ويعيدون طبعها ونشرها بأثمان زهيدة”.
يقول حسام تمام أنه حين نجح الإخوان في ضم القطاع الأكبر من هؤلاء كانت السلفية تثبت أقدامها وتملأ المنظومة الإخوانية، يكفي أن نعرف أن أول طبعة لكتاب قواعد المنهج السلفي لمصطفى حلمي كانت في دار يملكها الإخوان، وهي التي صارت تعرف بدار الدعوة في الاسكندرية، كما سلموا لهم في الهدي الظاهر فاضطرت قيادات الإخوان إلى إطلاق اللحية والتزام كل السنن الظاهرة وعلى رأسهم مصطفى مشهور مرشد الجماعة لاحقا وعباس السيسي وغيرهما”.
ويلفت تمام إلى أن “مسار التفاوض حول انضمام الجماعات الإسلامية كان سببا في حدوث انشقاق في الحركة الإسلامية التي كانت تشهد نشأتها الثانية، فأولئك الذين تأثروا بالمكون السلفي الوهابي في مجال الفقه والعقيدة اختلفوا مع الآخرين حول الانضمام للإخوان ثم رفضوه رفضا لم يكن عقائديا بقدر ما كان رفضا لهيمنتهم على حركة اعتبروا أن ليس لهم فضل فيها، فأسسوا مدرسة الدعوة السلفية في الإسكندرية عام 1976 ثم عكفوا على بناء أيديولوجية تميزهم اختاروا السلفية الوهابية فصصاروا يمثلون المدرسة السلفية العلمية، ثم كان هناك من شباب الجماعة الإسلامية من تأثروا بالرافد القطبي (نسبة لسيد قطب) وبالمودودي في الفكر السياسي فبنوا فكرا متشددا وانعزاليا وثوريا حاكميا تجسد مع صالح سرية وعبدالسلام فرج لاحقا في تنظيمي الجهاد والجماعة المصري المنشأ لكن بعمق عقدي سلفي، ثم تأثر القسم الكبير أخيرا بمحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وبالتيار المنفتح على المشاركة في النظام لدى الإخوان وهي الكتلة الأكبر التي انضمت فعليا إلى الإخوان لكن أيضا بعمق عقدي سلفي ليشكلوا ما سنعتبره كتلة السلفيين الإخوانيين”.
هكذا حدث “التلاقح الإخواني السلفي الأهم داخل مصر بحيث أثرت هذه المكونات السلفية في أفكار قادة هذه الجماعات وأعضائها ونقلها عدد كبير منهم ممن انضموا لاحقا إلى جماعة الإخوان في نهاية السبعينيات، فتأثر فكر الإخوان بالفكر الوهابي السلفي كما لم يحدث من قبل”.
في الثمانينيات يصل التأثير المتبادل بين الإخوان والسلفية بعدا آخر “فبقدر ما كان التأثير الإخواني في السلفية الوهابية حركيا، بقدر ما كان التأثير السلفي لدى الإخوان إيديولوجيا، لذلك نلاحظ من جهة أول كيف أدى التلاقح الحاصل في الاتجاه الأول إلى نشأة فرعين حركيين في السلفية أولا عبر الفرع القطبي (نسبة إلى سيد قطب) الذي نتج عنه تيار اصطلح على تسميته بالسلفية الجهادية عبر فرع الإخواني الفلسطيني الشيخ عبدالله عزام، ثم تيار الصحويين السعوديين عبر فرع الإخواني السوري محمد سرور زين العابدين الذي دمج بين فكر العمل العام الإخواني وبين سلفية المعتقد في الوهابية”.
التلاقح الآخر نتج عنه جيل السلفيين الإخوانيين و”كان عميقا وممتدا وذا وتيرة متسارعة”، ويكشف حسام تمام أن ميدان الدعوة كان أكثر المجالات وأيسرها لتمدد السلفية داخل الإخوان حيث “يبدأ الإخوان المتسلفون بحضور بل وتقديم برامج حوارية وتثقيفية ودينية ارتبطت بهم على القنوات ذات التوجه السلفي ويتفاعلون بل ويتنافسون نجومية دعاتها”، ويشير إلى صفوت حجازي وراغب السرجاني وجمال عبدالهادي وغيرهم، وقنوات كقناة الناس والحافظ، ويصير الدعاة والمتلسفون أشبه بحلقة وصل بين الإخوان والسلفية.
ويرى تمام هنا أن التنافس في الميدان الدعوي “انتهى ليصب في صالح الرافد السلفي الذي أنعشه تيار الدعاة الإخوانيين المتسلفين في إصرارهم على تأكيد الانتساب إلى الدعوة السلفية، مما أدى بالضرورة إلى نقاشاتها العامة واستخدام منابرها الدعوية من فضائيات ومواقع إلكترونية سلفية مع ما يتضمنه ذلك من إكراهات قد تمس بالضرورة الخطاب الإخواني بل وانتهى إلى الزي السلفي في أكثر الأحيان”.
ويخلص تمام أن تعاظم المكون السلفي في الجماعة وصل إلى مسائل النقاب واللحية والتشدد في الملبس بشكل عام، ثم ظهر في انتشار النقاب بين الأخوات والتأكيد عليه في الأسر الإخوانية، كما ظهر في أزمات ملاحقة الكتب والأعمال الفنية ومسائل الرقابة، وأكد أن “التمدد السلفي الذي يطال مسألة اللباس والفنون والآداب والموسيقى يتجه تركيزها ـ يقصد الجماعة الإخوانية ـ في طابع مفارق للمجتمع يبتعد عن كل ما هو ثقافي وينفي اختلافات التاريخ والجغرافيا”.
_________
*(ميدل ايست أونلاين)