*ترجمة: مهند الجندي
تعلق فيلليني المولود في ريميني – بلدة معزولة على ضفاف البحر الأدرياتيكي – بعروض السيرك ومؤديي المسرحيات الهزلية التي كانت تعرض في مدينته، وتأثرت أعماله بما تلقنه من تعليم في المدارس الكاثوليكية التي انتقدها عبر أفلامه وحملت فيها نظرةً كاثوليكية روحانية قوية بنفس الوقت. وبعد عمله بوظائف مختلفة كصحفي حول الجرائم ورسام للكاريكاتير، بدأ فيلليني مسيرته الفنية بالعمل ككاتب كوميدي لصالح الممثل ألدو فابريزي. ثم تعرف على الممثلة جوليتا ماسينا وتزوجها في العام 1943، وهي التي ظهرت لاحقاً في عدد من أفلامه، ووصفها بأنها المرأة الأكثر إلهاماً لأعماله. وحظي في العام 1945 على نجاحه السينمائي الأول حين دُعي للمشاركة في كتابة سيناريو فيلم Open City، وهو من أهم أعمال المخرج روبيرتو روسيليني ضمن الحركة الواقعية الجديدة. وبعدها قام ذات المخرج بإخراج فيلم Ways of Love، الذي يتضمن جزءاً يستند عن قصة كتبها فيلليني اسمها The Miracle حول امرأة ريفية (آنا مغناني) تعتقد بأن الرجل المتشرد (يؤديه فيللني نفسه) الذي جعلها تحمل هو القديس يوسف وأنها ستلد السيد المسيح.
وشهد فيلم Variety Lights عام 1950 المحاولة الإخراجية الأولى لفيلليني، وذلك بتعاونه مع المخرج المعروف ألبيرتو لاتودو، ويعرض الفيلم تفاصيل بعض الحركات الخداعية لمجموعة من الاستعراضيين المتنقلين. ولحق هذا العمل فيلمين هما The White Sheik عام 1951 وI Vitelloni عام 1953؛ وأولهما كانت قصته كوميدية حول علاقة امرأة مع صورة مرسومة لبطل مسلسل تلفزيوني، والثاني هو كوميديا درامية عن مجوعة من الشبان وحياتهم الفارغة.
اهتمام المخرج بغرابة أطوار شخصيات أفلامه وتعاطفه معهم وولعه بالعبثية وأحياناً بالسخرية التهريجية، جعل أفلام فيلليني الأولى الواضح تأثرها بأسلوب الواقعية الجديدة تتميز عن بقية أفلام هذه الحركة منذ بداية مسيرته. عرف فيلليني نجاحه العالمي مع فيلم La Strada لعام 1954، وهو أحد أفضل الأفلام على الإطلاق ومن أكثرها تحريكاً للمشاعر؛ قصة فتاة شابة بسيطة وبريئة (ماسينا) تقوم عائلتها ببيعها إلى طاغية متوحش خلال أحد العروض لسيرك متنقل. وقد اتهم فيلليني بتجاوز قواعد الموجة الواقعية الجديدة جراء تشرب فيلمه بمشاهد سيريالية عديدة. بيد أن La Strada بات حالياً يعد أول تحفة يقدمها المخرج، وهو عبارة عن حكاية مجازية شعرية تعبيرية تعرض رحلة شخصين نحو الخلاص. وكان للموسيقى الرائعة التي ألفها نينو روتا للفيلم أثراً كبيراً في زيادة قيمة الفيلم، وقد شكل العمل بداية التعاون بين الرجلين – المخرج والمؤلف الموسيقي – الذي انتهى قصراً بسبب وفاة الأخير في العام 1979. ومن العناصر البارزة ضمن الفيلم هو أداء الممثلة ماسينا الذكي إضافةً للتخيلات النفسية المؤثرة للأرض والسماء والنار والماء.
عقب تقديمه لفيلمين مميزين لكن أقل وهجاً بالمقارنة مع بقية أعماله – وهما The Swindle عام 1955 وNights of Cabiria عام 1957 الذي ظهرت به الممثلة ماسينا بأشهر أدوارها كعاهرة تعيسة الحال – أخرج فيلليني فيلميه الأكثر روعة وأهمية: La Dolce Vita عام 1960 و8 ½ لعام 1963. وكان العمل الأول عبارة عن نظرة شمولية بثلاث ساعات حول المجتمع الإيطالي آنذاك كما تراه شخصية الصحفي الذي يؤديه الممثل مارشيلو ماسترويّاني، وهو الوجه التجسيدي للمخرج فيلليني. ويحوي La Dolce Vita – عدا عن هجومه الساخر المبطن الذي يكشف سخافة مذهب المتعة لدى المجتمع الإيطالي – صوراً كثيرة لا تنسى، من بدايته المحاكية لصعود السيد المسيح إلى السماء وذلك بطائرة مروحية تنقل تمثالاً متدلياً للسيد المسيح فوق أسقف البنايات بينما تتشمس النسوة بملابس السباحة وصولاً لصورة استحمام أنيتا إكبيرغ بماء نافورة تريفي.
ولوقي الفيلم بنجاح دولي سيئ السمعة على شباك التذاكر أدانته الكنيسة الكاثوليكية لوصفه الساخر لموضوعي الانتحار والجنس، حالها من حال الحكومة الإيطالية التي أدانت نقده لاذع اللهجة تجاه الدولة. فوجد فيلليني نفسه بعيد هذا الاستقبال الحافل لفيلمه من النقاد أن الجمهور العالمي بات ينتظر جديده بعين دقيقة متمعنة النظر.
بينما شكل الفيلم الثاني بعنوان 8 ½ مجازفة عبقرية: قرر فيلليني، بما أنه كصانع أفلام لم يعرف ما يُقدم في فيلمه الجديد، أن يصنع فيلماً حول مخرج عالمي بارز يمر بنفس الفترة الضحلة التي يشهدها فيللني، وبالتالي يواجه متاعبه الشخصية واحدة تلو الأخرى؛ أدى الممثل ماستروياني وجه المخرج الآخر. ولأنه أخرج بحلول هذا الوقت ستة أفلام طويلة وساعد بإخراج فيلم سابق (بمعنى نصف فيلم) وأخرج مختارتين أدبيتين سينمائيتين (كل واحدة تعني نصف فيلم)، أحدهما كان Boccaccio ’70 عام 1962، أدرك فيللني بذلك أنه قد أخرج سبعة أفلام ونصف، وعليه اختار عنوان 8 ونصف لفيلمه الأكثر تعبيراً عن ذاته. وسيطرت تخيلات الفيلم الوهمية السريالية بجلاء لأول مرة ضمن أعماله، وذلك حتى دون تمييز واضح بين مشاهد الخيال والواقع في هذا الفيلم الفريد وذو الإلهام الاستثنائي.
وكان فيلم فيللني التالي بعنوان Juliet of the Sprites عام 1965 هو الأول للمخرج بالتصوير الملون. الفيلم الذي لعبت بطولته الممثلة ماسينا التي كانت مسيرتها في تدهور وتمر بمشاكل شخصية بعلاقتها مع فيللني استخدم أساليب فيلميه السابقين لشرح نفسية ربة منزل مضطربة من الطبقة الغنية. وهنا لأول مرة، ارتفعت أصوات النقاد اللذين هاجموا فيللني لنرجسيته لتصبح أعلى من أولئك المادحين لبصريته النافذة. Juliet of the Sprites – وهو عمل مناصر للنساء سابق لعصره يزيد بتعقيداته من صورة فيللني كـ”رجل عجوز دنيء” – يبدو في عصرنا أقوى حتى من الوقت الذي صدر فيه؛ حيث يعرض في أحد مشاهده ذكريات جولييت لموكب ديني تشكله مجموعة من فتيات المدارس تقوده راهبات كريهات ومشبوهات، وهو بلا شك من أفضل المشاهد في تاريخ السينما ومن أكثرها إثارة للرعب.
وأطلق العديد من النقاد على فيلمه Satyricon للعام 1970 بأنه “الإنجاز الأفضل لفيللني”. الفيلم المستند بجوهره على القصاصات المتبقية من رواية ساتريكون للكاتب بترونيوس، هو من أكثر أعمال المخرج احتواءً للأوهام ويعرض المغامرات الفاسقة لشخصيات شاذة تعيش في فترة ما قبل سيد المسيح. فيللني نفسه وصف الفيلم بأنه خيال العلمي لقصة من الماضي؛ يسير العمل فعلياً على شكل جزيئات من الأحلام يصعب فهمها أحياناً، وتنتهي مجرياته – حرفياً – في منتصف جملة تتلفظ بها إحدى الشخصيات. وقد وصل تخلي المخرج عن أسلوب السرد التقليدي إلى أوجه ضمن هذا الفيلم، وبقية أعمال فيللني التالية لم تغير كثيراً من هذا النمط، وهي الآلية التي ازدادت تباعاً مع فيلم جولييت الذي تسيطر فيه نفسية البطلة وعالمها على أجواءه.
كما أن فيلم Satyricon يشحنه نوع من التوتر الشديد أكثر من أي فيلم آخر قدمه المخرج؛ فثمة حدة دائمة الحضور بين عذوبة الفيلم الشكلية وعناصره الموترة الكثيرة، ومنها الجنس والتعري والأقزام وزلزال والشذوذ وقطع للرأس وجمع من الجنس والدعارة والانتحار وكائنات خرافية وعنف ومئات من أغرب الممثلين المستأجرين المكملين للمشاهد على الإطلاق. وقد استقطب الفيلم اهتمام النقاد، فانتقد بعضهم العمل على أنه يثبت بأن نرجسية فيلليني قد وصلت إلى درجة غير سوية، والبعض الآخر مدحه بأنه منبع هائل لنوع جديد من السينما غير التقليدية، وأنه رحلة مشغلة للفكر (كما هو فيلم 2001: A Space Odyssey للمخرج ستانلي كوبريك) فيكون الذروة الفنية لعقد الستينيات وبجعبته التعليق الأكثر عمقاً، وذلك عبر معالجته للماضي الخيالي فوق أرضية الحاضر.
المتتبعون لمسيرة فيللني يلاحظون أن أعماله اللاحقة لم تكن بذات التركيز الذي تمتع به فيلم Satyricon، وأن سمعته العالمية باتت متأرجحة المستوى. وبعد تنحيه عن الأسلوب الباهر والمفرط بجرأته ضمن ذلك العمل، قدم المخرج مجموعة من الأفلام الهادئة المميزة، وجميعها تطبعت بلغة خيالية معبرة تخلصت من الفروق الفاصلة بين الفيلم القصصي والآخر الوثائقي، ومنها: The Clowns لعام 1971 الذي يعرض حب فيللني الأبدي للسيرك، وRome لعام 1972 بتمحوره حول حبه وكره للمدينة الخالدة التي زج بها في الكثير من أفلامه، وفيلم Orchestra Rehearsal لعام 1979 ذو النقد اللاذع والقوي بتجسده للسياسيات الإيطالية عبر استعارة الأوركسترا الموسيقية.
ومن أهم أفلام فيللني على الأرجح بعد تقديمه Satyricon هو فيلم Amarcord لعام 1974، وهو عمل أسهل للفهم ويُمكن النظر إليه كنتيجة ختامية لشغفه بعرض سيرته الذاتية على الشاشة (يعني عنوانه “أتذكر”). ينسق Amarcord صوره بتركيزه على المجرى الطبيعي للحياة وأسلوبه السردي المترابط، مع أن الفيلم لا يخلو من الصور الخيالية الرائعة مثل الطاووس الذي يظهر خلال ثلج الشتاء، عدا أنه يشرح طفولة فيللني في بلدة ريميني بكل بحب ويمطر مشاهده بفكاهة غريبة ورقيقة في آن واحد. وقد كان الفيلم هو الرابع للمخرج الذي يفوز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي، بيد أنه وجد صعوبة في تمويل وتوزيع أفلامه في الثمانينات. وأدى تراجع سمعته بين النقاد وصعوبة فهم بعض أفلامه الأخرى إلى تضائل أهمية فيلم Amarcord أو وصفه بأنه أحد أعماله “النرجسية” الجديدة.
ومع أن فيلم Casanova لعام 1976 لم يكن من أهم أفلامه، إلا أنه كان قاسٍ قسوة بالغة غير اعتيادية ومؤجج بصور مدهشة لا يمكن التغاضي عنها بسهولة. بينما أثبت فيلم And the Ship Sails On لعام 1984 أن ميل المخرج إلى عرض الشخوص النابضة بالحيوية لم تفقد بعد قوتها الهزلية الساخرة بتعليقها حول الفنانين المنهمكين في شؤونهم الذاتية وعناصر أخرى مختلفة (منها حيوان وحيد القرن يشعر بالحنين للوطن). في حين أن فيلم Ginger and Fred لعام 1986 الذي تعرض لانتقاد واسع حال صدوره آنذاك (كما أنه كان فيلم فيللني الفني الأخير الذي يعرض بشكل موسع في الولايات المتحدة) احتوى على العديد من اللحظات المؤثرة والمرحة بأداء من ممثلي المخرج الأهم ماسينا وماستروياني اللذين يؤديان دوري فريق رقص يجتمع مجدداً في عرض يمكن أن يُطلق عليه “تلفزيوني فيللني”.
وكان فيلم Intervista لعام 1987 بمثابة التتمة لتأمل وتفكر سنوات عمله فيللني الأخيرة. وهو مشروع مشابه لفيلم 8 ½ ويشكل زيارة جديدة لنفس مواضيع فيلمه المهم الآخر: La Dolce Vita (مع الممثلين ماستروياني وأنيتا إكبيرغ)، وفيه يواجه المخرج – فيللني – مكانته وموقعه كصانع أفلام، وهذه المرة بذكريات أكثر حزناً وكآبة من فترة شبابه. يقوم “الساحر” المسن الآن (كما هو يُطلق عليه في إيطاليا أحياناً) وممثليه العجائز بمشاهدة أعمالهم المهمة السابقة بلقطات محركة جداً للمشاعر.
بعض النقاد يرون أن فيلمه الأخير الكامل بعنوان Voice of the Moon لعام 1990 بأنه أكثر أعماله السريالية، وهو مثل Intervista كفيلم صغير مفعم بالذكريات والأفكار الكئيبة والغريبة الحزينة، ويعد فيلم ختامي لمسيرة سينمائية مليئة بمتع وعجائب سيرك الحياة المدهش.
استمر فيللني في العمل على مشاريع أخرى وهو شبه متقاعد. وقد كُرم في حفل جوائز الأكاديمية في مارس من العام 1993 حيث حصل على أوسكار خاص عن مجمل أعماله في صناعة الأفلام، وهي الجائزة التي أهداها لماسينا في كلمته حين تسلمها.
تعرض فيلليني في شهر أغسطس من نفس العام إلى سكتة دماغية وغط في غيبوبة بعد إصابته بجلطة قلبية في شهر أكتوبر. وبعد موته بسن الثالثة والسبعين بتاريخ 31 أكتوبر – بعد يوم واحد من احتفاله بعيد زواجه الـ50 من ماسينا (التي توفيت بمرض السرطان بعده بخمسة أشهر) – ملئ عشرات الآلاف من الناس الطرقات الضيقة لبلدة ريميني التي ولد بها فيللني، وهم يحيون المخرج ويناظرون تابوته محمولاً بدءاً من مطعم البيتزا الرئيسي إلى مقر السينما التي شاهد بها فيللني أفلامه الأولى وهو طفل (عرض منها لقطات في فيلمه Amarcord). لقد كان عرفاناً ملائماً إلى أحد أهم فناني السينما والذي أمسى كنزاً وطنياً لإيطاليا وأستاذاً مرموقاً بنظر العالم أجمع.
_________
*(مجلة السينما)